البشرى والسعادة في الدارين، وعلى نحو ما جمع العرب على دين واحد جمعهم على لهجة واحدة من لهجات اللغة العربية، هي لهجة قريش، وكانت قد سادت في الجاهلية على لهجات القبائل العدنانية الشمالية، فأتم لها هذه السيادة على لهجات القبائل اليمنية الجنوبية، وكانت هي التي حملها العرب معهم في فتوحاتهم، فانتشرت في العالم الإسلامي جميعه من الصين والهند إلى المحيط الأطلسي، وجبال البرانس، إذ كانت تلاوته قرضا مكتوبا على المسلمين، قال جل شأنه:{وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} ، وقال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} ، وبذلك كان للقرآن الكريم الفضل العظيم في حفظ اللغة العربية، وذيوعها وانتشارها في ملايين الناس مدى أجيال متعاقبة، بل مدى قرون مترادفة إلى اليوم.
فالقرآن هو الذي حفظ اللغة العربية القرون المتطاولة السابقة، وقد حول العربي من إنسان جاهل يؤمن بالخرافات إلى إنسان محب للعلم مشغوف بالمعرفة، يطلبها أينما كانت، ولم يلبث أن فتح له الأرض، فدخلت إلى العربية أمم شاركت في لسانها وأدبها، وتعاونت في تلك النهضة الروحية والاجتماعية والأدبية والعلمية، ومن الحق أن كل ما كسبته لغتنا من آداب في الشعر والنثر، ومن علوم شرعية ولسانية وعقلية فلسفية، إنما كان بفضل القرآن، بل لقد تعدت آثاره لغته العربية إلى لغات الأمم الإسلامية التي لا تنطق بلغته، ولنتصور العرب لم يرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل فيهم الذكر الحكيم إذن لما فارقت لغتهم جزيرتهم، ولظلوا وثنيين في تنابذ وشقاق، وحروب طاحنة، بل لعل لغتهم كانت قد اندثرت كما اندثرت لغات قديمة كثيرة، فالقرآن هو الذي نفخ في روحها، وهو الذي أتاح لها الحياة على توالي القرون، وهو الذي نقلها من لغة بداوة إلى لغة مدنية، حتى أصبحت لغة عالمية لأمم كثيرة اتخذتها لسان ثقافتها وآدابها، ولا يوجد في تاريخ البشرية كتاب له هذه الآثار العظيمة في لغته، وتغيير أحوال من آمنوا به، بل هو يقف وحده في هذا الباب، إنه مفخرة العرب ومعجزة الإسلام، وآيته الباهرة.