للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ضاعوا، فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال صحار: بل مخبر:١. وواضح أن عمر أنكر عليه استخدامه للسجع في كلامه. ويروي الرواة أن عبد الله بن الزبير تكلم بكلام مسجوع عند معاوية، فقال له: "تعلمت السجاعة عند الكبر"٢، وفي أخبار معاوية أنه كتب إلى رجل كتابا، فأملى على كتابه: "لهو أهون علي من ذرة، أو كلب من كلام الحرة"، ثم استدرك قائلا لكاتبه: "امح من كلاب الحرة، واكتب من الكلاب"٣. فالخلفاء كانوا يكرهون السجع لنهي الرسول، صلوات الله عليه عنه. وليس معنى ذلك أنه انمحى محوا من خطابة هذا العهد، فالجاحظ يقول: "كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فتكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة"٤، ومن يرجع إلى حروب الردة يرى بعض المتنبئين مثل مسيلمة الكذاب يتكهنون، ويسجعون في كهانتهم، وكان مسيلمة خاصة "يسجع السجاعات، ويقولها مضاها للقرآن"٥، ويقول الجاحظ: إنه "عدا على القرآن فسلبه، وأخذ بعضه وتعاطى أن يقارنه"٦.

وقد انتهت هذه الموجة من سجع المتنبئين بانتهاء حروب الردة، ولكن السجع بعامة لم ينته معها تماما، فقد ظلت الخطباء تسجع بين يدي الخلفاء على نحو ما يلاحظ الجاحظ.

وإذا نظرنا فيما أثر من خطب عند أبي بكر الصديق، ومن تبعه من الخلفاء الراشدين، وجدناهم يقتدون بالرسول في خطابتهم، فهم لا يستخدمون السجع فيها، وهم يفتتحونها بحمد الله، وتمجيده والصلاة على رسوله ويوشونها بآيات من القرآن الكريم، وببعض أحاديث نبيه العظيم، مستمدين من هذين الينبوعين الغزيرين في وعظهم، وفيما يسوقونه من وصايا وتعاليم. وكان الصديق في الذروة


١ الطبري، القسم الأول ص٢٧٠٧، وانظر البيان والتبيين ١/ ٢٨٥.
٢ البيان والتبيين ١/ ٣٠١، والعقد الفريد ٤/ ٣٦٨، والسجاعة: مصدر سجع.
٣ رسائل الجاحظ "طبعة الساسي" ص ١٥٥.
٤ البيان والتبيين ١/ ٢٩٠.
٥ الطبري، القسم الأول ص ١٧٣٨، ١٩٣٤.
٦ الحيوان ٤/ ٨٩.

<<  <   >  >>