للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلى شاكلة الخطبتين السالفتين كانت خطابة الرسول، فهي إما موعظة حسنة وترغيب وترهيب، وبيان لمسئولية المسلم الخلقية وأنه محاسب بين يدي ربه عن كل ما قدم في حياته، وهو يضح ذلك أمام عينيه ليصلحه، ويقوم نفسه ويسمو به في مراقي الكمال، وإما تشريع وتنظيم لمجتمعه، وما ينبغي أن يسود فيه من عوامل الخير ودواعيه، فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، فلا بغي ولا عدوان، بل تآزر وتعاون في قيام هذا المجتمع السليم.

ومن المحقق أن الرسول كان في خطابته -كما كان في حديثه- لا يستعين بخلابة ولا تزويق، وقد برئت ألفاظه من الإغراب والتعقيد والاستكراه، وهي مع ذلك ألفاظ جزلة لها بهاء ورونق، تعمر بها القلوب والصدور، وترتاح إليها الأسماع والأفئدة، فتجتمع لها النفوس المتباينة الأهواء، وتساق إليها بأزمتها، إذ تلتحم بمعانيهم وما تدعو إليه من سبيل الرشاد، وهي -بلا ريب- مثل أعلى في البراعة والدقة، ونقصد دقة الحس ولطف الشعور، ولعل مما يدل على ذلك قوله: "لا يقولن أحدكم: خبيث نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي"١، فقد كره أن يضيف المسلم الخبث إلى نفسه. ونؤمن بأن هذه العناية بحسن منطقه لم تكن نتاج تحبير، أو تكفير إنما طانت نتاج ما خوله الله من نعمته في بيانه الرائع.

وليس في خطبتي الرسول السالفتين سجع، ومن المؤكد أنه لم يكن يستخدم السجع في خطابته، بل كان ينفر منه بسبب استخدام الكهان له في الجاهلية على نحو ما مر بنا في الفصل السابق، ولذلك صد عنه كما صد عنه خلفاؤه. روى الطبري أن عمر بن الخطاب، سأل صحارا العبدي البليغ المشهور عن مكران الفارسية أثناء غزو المسلمين لها، فقال صحار: "يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبال، وماؤها وشل٢، وتمرها دقل٣، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، إن كثر الجند بها جاعوا، إن قلوا بها


١ الحيوان للجاحظ ١/ ٣٣٥، ولقست النفس: غثت.
٢ وشل: قليل.
٣ دقل: أردأ التمر.

<<  <   >  >>