للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والوصية طويلة، وهي أشبه بدستور قديم، يضمنه عمر مواد الحكم كما في شريعة الله وسنة رسوله، وهي تجري -شأنها شأن خطبه- في هذا الأسلوب الناصع البريء من الفضول ومن التكلف، والذي يملأ السمع بجزالته ورصانته وقوته، وكان خطيبا لا يبارى في مخارج كلامه، حتى قالوا: إنه كان يستطيع أن يخرج الضاد من أي شدقيه شاء١. ولم يكن عثمان يبلغ من الفصاحة والبيان مبلغ صاحبيه، ويروى أنه صعد المنبر ذات يوم، فأرتج عليه، فقال: "إن أبا بكر وعمر كان يعدان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب"٢.

وأما علي بن أبي طالب، فإنه لم يكن يقل عن أبي بكر وعمر شأوا في خطابته، وقد أثرت عنه خطب كثيرة، ولا نقصد الخطب التي يحتويها بين دفتيه كتاب "نهج البلاغة"، فأكثره مصنوع ومحمول عليه، وقد أشار إلى ذلك كثير من العلماء، واختلفوا هل هو من عمل الشريف المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ للهجرة، أو هو من عمل أخيه الشريف الرضي المتوفى سنة ٤٠٦ للهجرة، يقول ابن خلكان في ترجمة أولهما بكتابه وفيات الأعيان: "قد اختلفت الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي، وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه". ويردد هذا الكلام اليافعي في مرآة الجنان٣، وابن العماد في شذرات الذهب٤، ويؤكد الذهبي في ميزان الاعتدال أن الشريف المرتضى هو الذي وضعه٥، ويذهب مذهبه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان، يقول: "من طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب والصراح، والحط على السيدين:


١ البيان والتبيين ١/ ٦٢.
٢ نفس المصدر ١/ ٣٤٥، وانظر عيون الأخبار ٢/ ٢٣٥، والعقد الفريد ٤/ ٦٦، وزهر الآداب ١/ ٣٦.
٣ مرآة الجنان "طبعة حيدر آباد" ٣/ ٥٥.
٤ شذرات الذهب "طبعة القاهرة" ٣/ ٢٥٧.
٥ ميزان الاعتدال "طبعة لكهنو" ٢/ ٢٠١.

<<  <   >  >>