للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كتابا ساق فيه وعظا كثيرًا، وهو لا يبلغ من الثقة به مبلغ المصادر السابقة. ونراه في وعظه دائم التذكير بالبعث، ويوم الحساب مكثرا من الحض على التقوى والعمل الصالح الذي يبقى. وهو يعرض ذلك في صورة من الخوف الشديد، والخوف من الجحيم، حتى لكأنه يراها بين عينيه، وكأن الناس واقفون على شفيرها، وهو يدعوهم أن يبتعدوا عنها مخالفة أن يهووا فيها وهم لا يشعرون، وفي أثنار ذلك يحثهم على التحلي بالفضائل فاتحًا عليهم من جهة أبواب النار، ومن جهة ثانية أبواب الرجاء، بل أبواب المحبة الإلهية. ونراه يغترف في مواعظه اغترافا من القرآن الكريم وآيه، فهو المنبع الذي يستمد منه وعظه وخوفه ورجاءه، وحزنه العميق، ولعله من أجل ذلك كان يقول: "والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدون في الدنيا خوفك، وليكثرن في الدنيا بكاؤك"١.

وعلى هذا النهج نفسه نقرأ مواعظ الوعاظ من حوله التي تتناثر في الكتب الأدبية الآنفة الذكر، وكانوا كثيرا ما يلمون بمجالس الخلفاء والولاة، فيعظونهم ويبكونهم، ويحدثنا الرواة أن خالد بن صفوان، وشبيب بن شبية والفضل بن عيسى الرقاشي، وواصل بن عطاء تباروا في الوعظ بمجلس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حين ولي العراق، وكان ذلك في سنة ١٢٨ للهجرة، فبزهم واصل لطول خطبته؛ ولأنه جانب فيهخا الكلمات ذات الراء، للثغة كانت له فيها، فكان يتحاشاها في منطقه٢.

وخالد بن صفوان وشبيب بن شيبة هما اللذان يقول فيهما الجاحظ: "ما علمت أنه كان في الخطباء أحد كان أجود خطبا من خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، للذي يحفظه الناس، ويدور على ألسنتهم من كلامهم"٣، ويقول في خالد: "ومن الخطباء المشهورين في العوام، والمقدمين في الخواص خالد بن صفوان.. ولكلامه كتاب يدور في أيدي الوراقين"٤، وكان الفضل بن عيسى


١ حلية الأولياء لأبي نعيم "طبعة الخانجي" ٢/ ١٣٣.
٢ البيان والتبيين ١/ ٢٤.
٣ نفس المصدر ١/ ٣١٧.
٤ نفس المصدر ١/ ٣٣٩-٣٤٠.

<<  <   >  >>