للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرقاشي من أخطب الناس وكان متكلما، وكان قاصا مجيدا، وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد وكثير من الفقهاء١، ولم يكن عمرو بن عبيد يقل عنه بلاغة وبيانا، أما واصل فلم يكن أبين ولا أجود لسانا منه، وكان يلثغ في الراء، فرام إسقاطها من كلامه، فلم يزل يكابد ذلك يناضله ويساجله، حتى تخلص من تلك الهجنة، وانتظم له ما حاول، حتى في محاجة الخصوم، وفي الكلام البديه المرتجل، ويعلل الجاحظ لذلك بأنه "كان داعية مقالة ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مقارعة الأبطال ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة كحاجته إلى الجزالة، والفخامة وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب، وتثنى به الأعناق، وتزين به المعاني"٢، فما زال يمرن نفسه على نفادي الكلمات ذات الراء، حتى تأتي له ذلك، واتسق له ما أراد.

ويقول الجاحظ: إن واصلا كان داعيه مقالة ورئيس نحلة، والمقالة التي يريدها هي مقالة الاعتزال، وهي نفسها النحلة، ويحدثنا صفوان الأنصاري في قصيدة مدحه بها، وأنشدها الجاحظ٣ أنه كان له دعاة خطباء يطوفون بأركان الأرض حتى يبلغوا الصين شرقا وبلاد البربر غربا، ويشيد ببيانهم، وفصاحتهم وما أوتوا من اللسن وبراعة القول وقوة الحجة.

ويلفتنا الجاحظ إلى ما كان ينهض به واصل من الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، فقد كان يناظر أصحاب الديانات، وكان يناظر أصحاب النحل من جماعة المسلمين، ومن يقرأ في أخبار هذا العصر يعرف أن المناظرات كانت مشتعلة بين الفرق، اشتعلت أولًا بين الفرق السياسية، بين فرق الخوارج نفسها، ثم بينهم وبين الشيعة ومن يميلون إلى طاعة أولي الأمر من الأمويين، ثم اشتعلت بين أرباب الفرق الدينية التي كانت تبحث في العقيدة والإيمان


١ البيان والتبيين ١/ ٣٠٦.
٢ نفس المصدر ١/ ١٤.
٣ نفس المصدر ١/ ٢٥.

<<  <   >  >>