للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طاقته ومواهبه، ونعرض في إجمال لطائفة من هؤلاء الخطباء، هم زياد والحجاج من خطباء الحزب الأموي، وقطري بن الفجاءة من حزب الخوارج، والمختار الثقفي من حزب الشيعة، أما زياد فكان حسن الألفاظ جيد المعاني، كأنما أوتي فصل الخطاب، وفيه يقول الشعبي: "ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم، فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا أن يسيء إلا زيادا، فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما"١، ولعل أشهر خطبة أثرت عنه هي خطبته الملقبة بالبتراء، وإنما سميت بذلك؛ "لأن خطباء السلف الطيب، وأهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التي لم يبتدئ صاحبها بالتحميد، ويستفتح كلامه بالتمجيد: البتراء، ويسمون التي لم توشح بالقرآن، وتزين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: الشوهاء"٢.

ومن يرجع إلى هذه الخطبة٣ يلاحظ أن زيادا عني بتأليفها عناية شديدة، فهي مقسمة إلى فقر، إذ يستهلها ببيان ما انغمس فيه أهل البصرة من الغي، والضلال والفسق والفساد متحرفين عن هدي الإسلام، والقرآن الكريم، ثم يبين لهم سياسته التي سيأخذهم بها، وأنها لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، ثم يأخذ في إنذارهم، وبيان العقوبات التي سينزلها على الجانبين منهم، ومن يعيثون فسادًا في الأرض، ويخرج من ذلك إلى بيان حق أئمتهم عليهم من الطاعة، ولزوم الجماعة، ويقول: إنهم يسوسونهم بسلطان يستمدونه من الله، فهم ساستهم المؤدبون، وكهفهم الذي إليه يأوون، ويختمها بالوعيد الشديد يشوبه بالترغيب.

وبون بعيد بين هذه الخطبة وخطب الجاهليين، فقد كانت الأخيرة أمثالًا وحكما، ولما جاء الإسلام أصبح للخطابة موضوع ديني واضح، ثم أخذت تتسع منذ الرسول عليه السلام للأحداث، ولكنها لم تصبح خطابة زمنية على هذا النحو الذي نجده في "البتراء"، والذي أصبحت فيه الخطبة تعرض لسياسة الحكم


١ البيان والتبيين ٢/ ٦٥.
٢ نفس المصدر ٢/ ٦.
٣ البيان والتبيين ٢/ ٦٢، وانظر عيون الأخبار ٢/ ٢٤١، ٢٤٣ حيث أوردها ابن قتيبة برواية أخرى، والعقد الفريد ٤/ ١١٠.

<<  <   >  >>