وتدعو لبني أمية، وتؤكد حقهم في الخلافة بمثل قوله:"أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل والإنصاف فيما ولينا"، وكأنه يقرر هنا نظرية التفويض الإلهي التي عرفها الفرس قبل الإسلام، فبنو أمية وولاتهم مثل زياد يسوسون الناس بتفويض من الله، وليس لهم أن يعارضوا، وأن ينقضوا هذا التفويض، أو تلك السياسة.
والخطبة بدون شك صحيحه النسبة إلى زياد، فهي تصور سياسته التي تحدثنا عنها كتب التاريخ، والتي أجملها في قوله:"لين في غير ضعف وشدة في غير عنف"، ثم هي تصور شدته على الجانين والبغاة، ومن كانت تحدثهم نفوسهم بالخروج على بني أمية، وقد بناها جميعا من ألفاظ جزلة مختارة، ليس فيها غريب مستكره ولا ساقط رديء، وإنما فيها القوة والمتانة، وفيها ضروب من الصور البيانية، وبعبارة أخرى من التشبيهات والاستعارات، غير أنه لا يعمد فيها إلى السجع، آخذا بسنة الخلفاء الراشدين في خطابتهم، وهي محكمة التنسيق كل فقرة تسلم إلى أختها، والأفكار تتسلسل في نظام، مما يدل على أنه لم يكن ذا عقل فطري بسيط، فعقله مدعم بالفكر الجديد، وهو الفكر الذي أخذ يستسيغ ما لدى الأجانب من نظرية التفويض الإلهي وغيرها، ولكن دون أن يذوب فيهم، ودون أن ينسى شخصيته العربية، وأسلوب قومه المحكم القائم على استخدام اللفظ المصقول الرصين، الذي يروعنا برونقه، وسلاسة نظمه ووضوح دلالته.
ولم يكن الحجاج يقل عن زياد بيانا، وإعرابا عما يختلج في صدره، ولعل أشهر خطبه تلك التي خطبها في الكوفة حين قدم على العراق واليا من قبل عبد الملك١، حدث معاصروه أنه دخل الكوفة فجأة حين انتشر النهار،