للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام فكشف عن وجهه، ثم قال:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني١

أما والله إني لأحتمل الشر بحمله.. وإني لأرى رءوسا قد أينعت، وحان قطافها وإني لصاحبها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، ثم أخذ ينشد أبياتا تنذر بما سيأخذهم به من عنف، فهم كما يقول أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، وقد نثر عبد الملك جعبة سهامه فوجده أمرها عودا، فرماهم به، ويردد وعيده لهم وتهديده من مثل قوله: "أما والله لألحونكم لحو العصا٢، ولأعصبنكم عصب السلمة٣، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل"٤، وقوله: "أما لتستقيمن على طريق الحق أولاد عن لكل رجل منكم شغلا في جسده".

والخطبة سياسة خالصة، فهي ذات موضوع زمني واضح، وهي تصور سياسة الحجاج التي اشتهر بها في كتب التاريخ، والتي كانت تقوم على العنف الشديد في غير لين، ولعل ذلك ما أراده الحسن البصري حين قال فيه، وفي زياد: "تشبه زياد بعمر بن الخطاب فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد، فأهلك الناس"٥.

وعلى نحو ما تصور الخطبة سياسة الحجاج تصور فصاحته، وبلاغته وحفظه للشعر الغريب، إذ اتخذه مقدمة لكلامه، وكأنما يجعله فاتحة، موسيقية له، وهي فاتحة يتبدى فيها، ويطلب التشبه بالبدو لا في لغته فحسب،


١ ابن جلا: كناية عن أنه لا يخفى مكانه، والثنايا: الشعاب في الجبال.
٢ لحا العصا والشجرة لحوا قشرها.
٣ السلمة: واحدة السلم، شجر ذو شوك، وكانوا يعصبون أغصانه، ويشدونها بعضها إلى بعض، ثم يخبطونها بالعصي، فيتناثر ورقها للماشية.
٤ كانت الإبل الغريبة إذا وردت الماء على إبل أخرى ضربت لتبتعد عنها، حتى ترتوي.
٥ البيان والتبيين ٢/ ٦٦.

<<  <   >  >>