للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بل أيضا ثيابه وملبسه١، حتى يغرب على السامعين ويروعهم، ولم يكتف بهذا الضرب من الإغراب، فقد عمد إلى طائفة من الصور الغريبة، وهي تتراكم في الخطبة تراكما شديدا، كما تتراكم في خطبه الأخرى٢. ولعل مما يتصل بميله إلى الإغراب، والتهويل في منطقة ما رواه المبرد من أنه "كان إذا صعد المنبر تكلم رويدًا، فلا يكاد يسمع، ثم يتزيد في الكلام حتى يخرج يده من مطرفه٣، ويزجر الزجرة، فيفزع بها أقصى من في المسجد"٤، ومعنى ذلك أنه كان في مظهره أثناء خطابته، وفي صوته وفي لفظه، وما يحوي من شعر وصور نادرة يريد التهويل على السامعين، ويحاول أن يحكم صنعته في الخطابة من جميع أطرافها، حتى في إشارة اليد، وفي الهمس بصوته، والجهر به حتى يخلب القلوب، على أننا نلاحظ أنه كان يتحامى السجع مثله مثل زياد، لكنه بعد ذلك كان يعني باختيار ألفاظه، ملتمسا منها ما ليس متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا، وهو حقا يعد في الذروة من البلاغة لعصره، حتى ليقول عنه مالك بن دينار: "ربما سمعت الحجاج يخطب، يذكر ما صنع به أهل العراق وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنهم يظلمونه، وأنه صادق، لبيانه وحسن تخلصه بالحجاج"٥. ومما لا شك فيه أنه يتفوق على زياد في ابتكار الصور والتشبيهات والاستعارات، ولكن زيادا يتفوق عليه في بناء خطبه وإحكام تأليفها، بحيث تتتابع في فقر وأجزاء متسلسلة، وليس معنى ذلك أن الحجاج لم يكن يطيل خطبه، فقد كان كثيرا ما يطنب في خطابته، ويسهب إسهابا شديدا، وخاصة في مواعظة الدينية٦، وقد بقي له منها قطع تدور في كتب الأدب من مثل: "اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه، وأرني الغي غيا فأجتنبه، ولا تكلني إلى نفسي فأضل ضلالا بعيدا"٧، ومثل: "إنا والله ما خلقنا للفناء، وإنما خلقنا للبقاء،


١ البيان والتبيين ٢/ ٣٠٨، وعيون الأخبار ٢/ ٢٤٣، وقارن ١/ ١٦٩.
٢ انظر البيان والتبيين ٢/ ١٣٨، والعقد الفريد ٤/ ١١٩، وما بعدها.
٣ المطرف: الثوب.
٤ الكامل للمبرد "طبعة رايت" ص١٧٣.
٥ البيان والتبيين ١/ ٣٩٤، ٢/ ٢٦٨.
٦ نفس المصدر ٢/ ٢٩٨.
٧ البيان والتبيين ٢/ ١٣٧، والعقد الفريد ٤/ ١١٥.

<<  <   >  >>