للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك لرعيته عمادا يدفع عنهم الملمات، ويكشف عنه المعضلات".

وليس الأحنف وحده الذي كان يسجع بين خطباء المحافل، فقد كانت عامتهم تذهب هذا المذهب من التحبير وتنميق الكلام، واستمر ذلك سمتهم طوال عصر بني أمية كما كان سمة أعراف البادية غالبا حين ينزحون من باديتهم إلى المدن، فيتحدثون بين أيدي الخلفاء والولاة، وقد فتح الجاحظ لهم فصلا في بيانه استعرض فيه طائفة من أقوالهم١، وهي جماعة تدخل في هذا الأسلوب المسجع، وما يطوي فيه من جمال الصياغة، ويعبر الجاحظ عن انبهاره إزاء ما يروي من كلام هؤلاء الأعراب، فيقول: "ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء"٢، ويقال: إن خالد بن صفوان تكلم في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله، فإذا أعرابي في بت٣، ما في رجليه حذاء، فأجابه بكلام أروع من كلامه وأعجب"٤.

وقد خطا خطباء القصص، والمواعظ بخطابتهم خطوات واسعة نحو الصقل والتجويد لأساليهم، وتلوين معانيهم وتنويعها وتفريغها فروعا كثيرة، ولم يكن الوعاظ يخطبون وقوفا إلا في صلاة الجماعة والعيدين، أما بعد ذلك فكان مثلهم مثل القصاص يخطبون غالبا، وهم جالسون وحولهم الناس يتحلقون، وهم يسوقون إليهم مواعظهم، فخطابتهم كخطابة القصاص كانت في الأغلب خطابة جالسة، أو قل: كانت أشبه بالمحاضرات والإملاءات، وليس هذا هو كل ما يفرق بين خطابتهم والخطابة السياسية، فهناك فرق آخر مهم يتصل بجمهور المستمعين إلى الطرفين، إذ كان خطباء السياسة يتجهون بخطابتهم إلى العرب وجيوشهم المقاتلة، أما خطباء الوعظ والقصص، فكانوا يخاطبون الهيئة الاجتماعية.


١ البيان والتبيين ١/ ٢٨٤، وما بعدها وانظر ١/ ٢٩٧، وما بعدها، ١/ ٤٠٨.
٢ البيان والتبيين ١/ ١٤٥.
٣ البت: كساء غليظ.
٤ البيان والتبيين ١/ ١٧٣.

<<  <   >  >>