للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كلها على اختلاف طبقاتها من خاصة وعامة، ومن عرب وموال، ولذلك هبطوا بأساليبهم قليلا عن مستوى أساليب الخطابة السياسية، حتى تفهمهم جميع الطبقات، وحتى لا يرتفعوا بكلامهم عن فئات العامة، ومع هذا الهبوط لم يخرجوا إلى كلام السوقة، بل وازنوا موازنة دقيقة بين كلامهم، ومستوى الفصاحة، فأخلوه من الألفاظ الغريبة، وفي الوقت نفسه لم يسقطوا به إلى ألفاظ مبتذلة، وألجأهم ضيق معانيهم إلى التنويع فيها والتفريغ والتوليد، كما ألجأهم إلى ضروب من الترداد والتكرار والترادف، لم يلبثوا أن تحولوا بها إلى صورة من الأسلوب المزدوج، الذي يقف في منزلة وسطى بين أسلوب السجع، والأسلوب المرسل، ولا نغلو إذا قلنا: إنهم هم الذين هيئوا لبروز هذا الأسلوب الذي شاع فيما بعد بين الكتاب مثل عبد الحميد الكاتب، والجاحظ ومن جرى مجراهما، ونراهم يستخدمون ضروبا من التصوير، أو من التشبيهات والاستعارات، وهم يستلهمون في كثير من جوانبها آي الذكر الحكيم، كما يستلهمونها في أكثر معانيهم، وقد جعلهم حديثهم عن الثواب والعقاب والجنة، والنار والطاعة والعصيان والحياة والموت والإيمان، والكفر أن يقيموا كلامهم على الطباق والمقابلة، مثل قول الحسن البصري: "بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرها جميعا، وإذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم به، الثواء ها هنا قليل، والبقاء هناك طويل، فخذوا صفاء الدنيا وذروا كدرها"١، وقوله: "إن خوفك حتى تلقى الأمن خير من أمنك حتى تلقى الخوف"٢.

والحسن البصري خير من يصور أسلوب الوعاظ المبني على الازدواج، واستخدام بعض الصور، وتلوين الكلام بألوان الطباق والمقابلة، مما يمثل تلك الصناعة المحكمة، ويغلب الحزن على مواعظه كما يغلب ترداد معنى الخوف والرجاء، ووصفه بعض معاصريه، فقال: "كان إذا أقبل، فكأنما أقبل من دفن حميمه، وكأن إذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه، وكان إذا


١ البيان والتبيين ٣/ ١٣٢.
٢ العقد الفريد ٣/ ١٧٨، وانظر ٣/ ٢١٤.

<<  <   >  >>