للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكرت النار عنده فكأنها لم تخلق إلا له"١. ويموج كتاب البيان والتبيين وكتاب عيون٢ الأخبار، والعقد٣ الفريد بمواعظه، ومواعظ معاصريه.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن هؤلاء الوعاظ هم الذين ألانوا أساليب اللغة العربية، وحملوها من الطاقات ما تستطيع به التعبير عن المعاني الدقيقة، وكانت كثرتهم من الأجانب، وكانوا مثقفين ثقافة واسعة، وكانوا أصحاب فطن بارعة، ففتحوا أبوابا لا حصر لها من الجدال في مسائل الدين والعقيدة، وتحولوا بمعانيهم يفرعون فيها ويولدون، ويأتون بكل جديد مستطرف، وبديع مستحسن.

وكان بين هؤلاء الوعاظ من بلغ من الحذق أن جعل مواعظه كلها سجعا خالصا كأسرة الرقاشيين، وهي أسرة فارسية كانت تحترف القصص في هذا العصر كما كانت تحترف السجع، ويقال: أنها كانت معروفة في أمتها بالخطابة، فلما دخلت في الإسلام قامت في لغتنا مقامها في لغتها الأصلية، وكأنما نزع أفرادها ذلك العرق القديم، ومنها يزيد بن أبان الرقاشي، وكان قاصا مجيدا، وكان يتكلم في مجلس الحسن البصري، وكان عابدا زاهدا، وهو عم الفضل بن عيسى الرقاشي، وفيه يقول الجاحظ: "كان الفضل سجاعا في قصصه.. وهو الذي يقول: سل الأرض فقل.. من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا"٤، وكان خالد بن صفوان التميمي يسجع كثيرا٥ كما كان يسجع غيره من العرب، ومعنى ذلك أن الرقاشيين لم يستحدثوا السجع في وعظهم، وإنما نسجوا فيه على منوال بطائفة من فصحاء العرب، وبلغائهم.

ومهما يكن فإن الخطباء الوعاظ، والقصاص نموا التحبير البياني، وكثيرا ما يقف الجاحظ في بيانه متعجبا من قدرتهم البلاغية، وقد تعجب طويلا


١ البيان والتبيين ٣/ ١٧١.
٢ انظر ٢/ ٣٤٤، وفي مواضع متفرقة.
٣ انظر فهرس الأعلام الملحق بالكتاب.
٤ انظر في الفضل وأسرته البيان والتبيين ١/ ٣٠٦-٣٠٨، وراجع زهر الآداب ٣/ ٢٢٠.
٥ البيان والتبيين ٢/ ٩٣، ٣/ ١٦٤.

<<  <   >  >>