للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من بلاغة واصل بن عطاء، وكيف استطاع أن ينزع الراء من خطبه للثغته فيها على نحو ما مر بنا غير هذا الموضع.

ولم يكن واصل وحده هو الذي أحرز هذا المقدار من البلاغة والبيان، بل لقد أحرزه عامة القصاص والوعاظ، وقد تحولوا يعلمون شباب البصرة، والكوفة كيف يتفرقون في الخطابة، وكانوا يسألونهم أسئلة كثيرة عن أساليبها، وألفاظها وكيف ينبغ الخطيب، وما ينبغي أن يراعيه في هيئته وإشاراته ومنطقه، وكيف يقنع خصومه في الجدال ويسكتهم؟ ومتى يستحب الإيجاز في الخطبة؟ ومتى يستحب الإطناب؟ وكيف يلائم الخطيب بين ألفاظه ومعانيه؟ وكيف يوازن بين كلامه، وبين طبقات السامعين؟ وكيف يجعل لكل طبقة كلاما، ولكل حالة مقاما؟ وكيف يقنع خصومه في المناظرة ويلزمهم الحجة؟

وهيأ ذلك كله لاستنباط طائفة من الوصايا البلاغية نجدها منثورة في كتاب البيان والتبيين تجري على ألسنة هؤلاء الوعاظ، وخاصة من كانوا يقارعون الخصوم ويجادلونهم، ونقصد المتكلمين الذين تناقشوا في القدر والعقيدة طويلًا، والذين نصبوا أنفسهم للرد على خصوم الإسلام.

ولعل مما يدل على صحة ما نزعم من ذلك أن أقدم النصوص التي تتصل بماهية البلاغة تضاف إلى واعظ من هؤلاء الوعاظ المتكلمين، وهو عمرو بن عبيد، فقد

روى الجاحظ أنه قيل له: ما البلاغة؟ فقال لسائله١:

"ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار، وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك، قال السائل: ليس هذا أريد.. قال عمرو: فكأنك إنما تريد تخير اللفظ في حسن إفهام؟ قال: نعم، قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المئوية على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين، بالألفاظ الحسنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة


١ البيان والتبيين ١/ ١١٤، وانظر العقد الفريد ٢/ ٢٦٠، وزهر الآداب ١/ ٩٤.

<<  <   >  >>