للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة، على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستحققت على الله جزيل الثواب".

وعلى هذا النحو كان الشباب يتعلمون على هؤلاء الوعاظ، كيف يبلغون ما يريدون من حسن الإفهام ومن البيان والطلاقة، وكيف يحصلون ذلك ويميزونه مع جمال المخارج والسلامة من التكلف، وكان الوعاظ من جانبهم لا يزالون يقدمون لهم النصح والإرشاد، وقد يدعونهم إلى المناظرة بين أيديهم طلبا لترويضهم وتمرينهم، على نحو ما صنع الحسن البصري بواصل، وعمرو بن عبيد إذ دعاهما في مجلسه للمناظرة في مرتكب الكبيرة والوصف الذي يستحقه، حتى يحذقوا الجدال، ومناقشة الخصوم والاحتجاج عليهم، وإذا لم يدعوهم إلى الكلام بين أيديهم نثروا عليهم وصاياهم على نحو ما نجد في وصية شبيب بن شيبة، التي يذكر فيها أن الناس يعجبون بجودة الابتداء، أما هو فيعجب بجودة الخاتمة، ويقول: إذا ابتلي الخطيب بمقام لا بد له فيه من الإطالة، فإياه والإسهاب إلى درجة الخطل١، ويقول خالد بن صفوان: "اعلم -رحمك الله- أن البلاغة ليست بخفة اللسان وكثرة الهذيان، ولكنها بإصابة المعنى والقصد إلى الحجة"٢.

ولعل في كل ما قدمنا ما يصور كيف ارتقت الخطاية في بيئات الوعاظ والقصاص، فقد أخذوا يتدارسونها ويبحثون في أدواتها ووسائلها، وانبعثوا يخطبون في كل مناسبة ومقام، موازين بين معانيهم وألفاظهم، وبين كلامهم ومن يخاطبونهم به من العامة والخاصة، وكان خطباء السياسة من حولهم لا يزالون يجودون في خطابتهم، وكذلك كان شأن خطباء المحافل، حتى ليقولون إن شباب الكتاب في دواوين الخلفاء كانوا يحضرون -إذا قدمت الوفود- لاستماع بلاغة خطبائهم٣.

والحق أن هذه البيئات جميعا أتاحت للخطابة في هذا العصر ازدهارا عظيما، لعلها لم تعرفه في أي عصر من العصور الإسلامية الوسيطة، فقد تعانت جهود خطباء السياسة والمحافل، وتعاون معهم الوعاظ والمتكلمون على النهوض بها، بل لقد نفذ الأخيرون إلىوضع قواعد، وتعاليم فيها كانت مقدمة للأبحاث البلاغية التي عرفت في العصر العباسي.


١ اليبان والتبيين ١/ ١١٢.
٢ العقد الفريد ٢/ ٢٦١.
٣ العقد الفريد ٤/ ٤٤٩.

<<  <   >  >>