للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن أجبى١ فقد أربى٢، وكل مسكر حرام".

والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمد في هذا الكتاب إلى تزويق، إنما يعمد إلى فكرته، وتبليغ دعوة الإسلام في غير إسهاب، وفي غير صنعة أو تكلف، فكان كما قال جل شأنه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} ، فكان يقصد إلى غرضه بالحروف القليلة والكلمات اليسيرة.

وتبعه الخلفاء الراشدون يهتدون بهديه في كتابتهم، وما يعقدون من معاهدات٣، فهم لا يقصدون إلى تنميق، إنما يقصدون إلى الإبلاغ أفكارهم في عبارات واضحة الدلالة، وليس من ريب في أننا لا نصل إلى عصر عمر حتى تكثر المكاتبات السياسية، فهو يكاتب قواده وولاته، وهم يكاتبونه كلما جدت مشكلة، وكان يكتف إليهم أحيانا في سياستهم لمن يحكمونهم، وكتابه إلى أبي موسى الأشعري في القضاء ذائع مشهور٤.

ونظن ظنا أن عمر وغيره من الخلفاء الراشدين، وولاتهم، وقوادهم، لم يقصدوا في كتابتهم إلى أي ضرب من ضروب التزين والتنسيق، فقد كان حسبهم أن يؤدوا أغراضهم في لغة جزلة متينة، وإن كان لك لم يمنع بعض المؤرخين، والأدباء أن يدخلوا الزينة والتنميق على بعض ما رووه لهم، من ذلك الكتاب الذي ينسب إلى عمرو بن العاص أنه أرسله إلى عمر في وصف مصر، والذي يقول فيه: "مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر وعرضها عشر" إلى آخر ما في هذا الكتاب من عبارات أنيقة٥، فإنه واضح الانتحال على ابن العاص.

وينبغي أن نعرف أن المكاتبات في صدر الإسلام لم تحفظ في سجلات خاصة، وكان ذلك سببا في أن تناولها غير مؤرخ وأديب بالتبديل والتحسين، ومن ثم كان الكتاب الواحد يروى رويات مختلفة باختلاف الكتب التي ترويه، وحسب ذوق الراوي وقدرته البيانية.


١ أجبى: من الإجباء، وهو بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه.
٢ أربى: من الربا.
٣ انظر القسم الثاني من كتاب حميد الله.
٤ البيان والتبيين ٢/ ٤٨، ٢٩٣، وعيون الأخبار ١/ ٦٦.
٥ النجوم الزاهرة لابن تغري بردي "طبعة دار الكتب" ١/ ٣٢.

<<  <   >  >>