تتجزأ مملكة الإسلام إلى دول صغيرة أو كبيرة بمقتضى الأحوال والظروف وتغلّب الأمراء. وانتهت الإمبراطورية العربية إلى مثل ما انتهت إليه من قبلها امبراطورية الإسكندر وإمبراطورية الرومان، فلم يعد من الميسور إدارة تلك الرقعة الشاسعة التي لم تكن تقطع من شرقيها إلى غربيها- على ما يرويه المقدسي- بأقل من عشرة أشهر، من حكومة مركزية واحدة. وقد يكون لتباين الأهواء والمشارب السياسية والميول المذهبية أثر كبير نضيفه إلى المؤثرات الجغرافية والإقليمية لتعيين أسباب هذا التجزؤ أو التعجيل به على الأقل. لكنه قد حدث فعلا؛ وقبل مسلمو تلك الأجيال الأمر الواقع وسلّموا به.
على أن هذه الأقطار الشاسعة التي فرّقت ما بينها الحدود الإدارية المصطنعة والتخوم السياسية المستحدثة، كانت تربطها أواصر وحدة روحية تخطت الحدود المرسومة والحواجز الموهومة. تلك هي رابطة الدين، وصلة المعتقد والعرف، وقرابة الدم والعنصر ووشائج العقل والفكر واللغة والثقافة. فقد استطاعت الفتوحات الإسلامية- وهذا ما يميزها عن غيرها من غزوات الأقدمين- أن تسبك تلك الأقطار المترامية في قالب روحي محكم البنيان، وتلحمها بلحمة دين موحد لم تستطع تقلبات الأحداث السياسية فصم عروته الوثقى أو تفريق كلمته المثلى. فكان المسلم، حيثما تنقل داخل حدود هذه المملكة، يجد نفسه بين إخوان له، يظله ما يظلهم من دين ويسري عليه ما يسري عليهم من شرع وعرف وعادات. وأينما ألقى عصا الترحال من أصبهان وبغداد شرقا والقاهرة وغرناطة غربا، وجد الجامع الذي يؤدي