كانت مما استصحبناه معنا في المركب ورائحة البحر قد غلبت على كل ما كان فيه.
وهذا الموضع الذي نزلنا به هو من الصحراء المعروفة بدشت قفجق "والدشت بالشين المعجم والتاء المثناة" بلسان الترك هو الصحرا. وهذه الصحراء واسعة قاحلة لا شجر بها ولا جبل ولا تل ولا أبنية ولا حطب وإنما يوقدون الأرواث ويسمونها التزك فترى كبرائهم يلقطونها ويجعلونها في أطراف ثيابهم ولا يسافر في هذه الصحراء إلا في العجل وهي مسيرة ستة أشهر ثلاثة منها في بلاد السلطان محمد أوزبك وثلاثة في بلاد غيره.
لما كان الغد من وصولنا إلى هذا المرسى توجه بعض التجار من أصحابنا إلى من بهذه الصحراء من الطائفة المعروفة بقفجق وهم على دين النصرانية فاكترى منهم عجلة يجرها الفرس فركبناها ووصلنا إلى مدينة الكَفَا "واسمها بكاف وفاء مفتوحين"، وهي مدينة عظيمة مستطيلة على ضفة البحر يسكنها النصارى وأكثرهم الجنويون ولهم أمير يعرف بالدندير ونزلنا منها بمسجد المسلمين.
ولما نزلنا بهذا الجامع أقمنا منها ساعة ثم سمعنا أصوات النواقيس من كل ناحية ولم أكن سمعتها قط فهالني ذلك وأمرت أصحابي أن يصعدوا الصومعة ويقرأوا القرآن ويذكروا الله ويؤذنوا ففعلوا ذلك فإذا برجل قد دخل علينا وعليه الدرع والسلاح فسلّم علينا واستفهمناه عن شأنه فأخبرنا أنه قاضي المسلمين هنالك وقال: لما سمعت القراءة والأذان خفت عليكم فجئت كما ترون ثم انصرف عنا وما رأينا إلا خيراً. ولما كان الغد جاء إلينا الأمير وصنع طعاماً فأكلناه عنده وطفنا بالمدينة فرأيناها حسنة الأسواق وكلهم كفار ونزلنا إلى مرساها فرأينا مرسى عجيباً به نحو مائتي مركب ما بين حربي وسفري صغيراً وكبيراً وهو من مراسي الدنيا الشهيرة، ثم اكترينا عجلة وسافرنا إلى مدينة القِرَم وهي "بكسر القاف وفتتح الراء" مدينة كبيرة حسنة من بلاد السلطان المعظم محمد أوزبك خان، وعليها أمير من قبله اسمه "تُلُكْتمُورُ "وضبط اسمه بتاء مثناة مضمومة ولام مضمومة وكاف مسكن وتاء كالأولى مضمومة وميم مضمومة وواو وراء"، وكان أحد خدام هذا الأمير قد صحبنا في طريقنا فعرفه بقدومنا فبعث إليّ مع إمامه سعد الدين بفرس ونزلنا بزاوية شيخها زاده الخرساني فأكرمنا هذا الشيخ ورحب بنا وأحسن إلينا وهو معظم عندهم. ورأيت الناس يأتون للسلام عليه