[مدينة بغداد]
مدينة دار السلام وحضرة الإسلام ذات القدر الشريف والفضل المنيف مثوى الخلفاء ومقر العلماء وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية فقد ذهب رسمها ولم يبق إلا اسمها وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس أو تمثال الخيال الشاخص فلا حسن فيها يستوقف البصر ويستدعي من مستوفر الغفلة النظر إلا دجلتها التي هي بين شرقها وغربها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين فهي تردها ولا تظمأ وتسطع منها في مرآة صقلية لا تصدأ والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ. قال ابن جزي: وكأن أبا تمام حبيب بن أوس اطلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها:
لقد أقام على بغداد ناعيها ... فليبكها لخرابِ الدهر باكيها
كانت على مائها والحربُ موقدةٌ ... والنارُ تطفأ حسناً في نواحيها
تُرجى لها عودة في الدهر صالحةٌ ... فالآن أضمر منها اليأسَ راجيها
مثل العجوز التي ولّت شبيبتُها ... وبان عنها جمالُ كان يُخطيها
وقد نظم الناس في مدحها وذكر محاسنها فأطنبوا ووجدوا مكان القول ذا سعة فأطالوا وأطابوا، وفيها قال الإمام القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي، وأنشدنيه والدي رحمه الله مرات:
طيبُ الهواءِ ببغدادٍ يشوقني ... قرباً إليها وان عاقت مقاديرُ
وكيف أرحل عنها اليوم إذ جمعت ... طِيب الهواءين ممدودٌ ومقصورٌ
وفيها يقول أيضاً رحمه الله تعالى ورضي عنه:
سلام على بغداد في كل موطنٍ ... وحُق لها مني السلام المضاعفُ
فواللهِ ما فارقتها عن قِلًى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارفُ
ولكنها ضاقت على برحبها ... ولم تكن الأقدار فيها تساعفُ
وكانت كخلٍ كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
وفيها يقول أيضاً مغاضباً لهان وأنشدنيه والدي رحمه الله غير ما مرة: