لهم الامور وانتشر شرعهم وعلا ذكرهم ودخل في دينهم الملوك والبطارقة وما نزلوا على حصن إلا ملكوه ولا وافوا جيشا إلا هزموه وقد دخلوا أرضكم وحلوا ساحتكم فما ترون من الرأي الرشيد قالوا: أيتها الملكة ما تكلمت بشيء إلا فهمناه وعرفناه والامر اليك فقالت الصواب إنكم تحقنون دماءكم وتصونون حريمكم وأموالكم وتدخلون فيما دخل فيه أهل البلاد وتصالحون العرب فتأمنون على أنفسكم وتعيشون في ظلهم فقالوا: هذا هو الصواب قالت فلينطلق منكم رجال إلى هؤلاء العرب ويعقدوا لنا منهم صلحا قال فخرجوا من عندها وسار منهم ثلاثون رجلا من خيارهم وعبروا الشط إلى عسكر خالد فلما رآهم خالد والمسلمون علموا أنهم من أهل الحصن فاستقبلوهم وسلموا عليهم ورحبوا بهم ومشوا معهم إلى قبة خالد وإذا هو جالس على التراب ووجوه أصحابه حوله وهم يكثرون من ذكر الله وليس لهم حاجب ولا بواب فسلموا عليهم فقرأ خالد: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}[النساء: ٨٦] فتقدم كبراؤهم وعلماؤهم في دينهم وقالوا: ايكم الأمير حتى نخاطبه.
فقالوا: ليس فينا أمير ولا من يلحظ أخاه بعين الذل لأن الإسلام شملنا والدين جمعنا ونحن عباد الله فلما سمع القوم ذلك قالوا: بأجمعهم والله ما نصركم الله علينا إلا باتباع نبيكم وقال خالد: كم تبذلون لنا من المال فقالوا: مهما أردتم امتثلناه فقالوا: انا لا نريد إلا ما ترضى به أهل الذمة الذين في البلد حتى تطيب قلوبهم ومن لا يرحم لا يرحم ولقد سمعت نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنزع الرحمة من قلب شقى" قال فلما سمع القوم ذلك تهللت وجوههم فرحا وقالوا: لقد نصركم الله بحق وما نرى دينكم إلا حقا فاسلموا عن آخرهم وعادوا إلى قومهم واجتمعوا في كنيستهم وحدثوهم بما كان وبما رأوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن سيرتهم فقال أهل البلد ما كنا بالذين نرفع أنفسنا عليكم لأنكم أولو الراي والدين وقد رضينا بما رضيتم به لأنفسكم فاسلموا إلا قليلا منهم وأما الملكة لما سمعت ذلك طاب قلبها وبعثت بالاقامة والعلوفة إلى خالد وسالته أن يعبروا إلى جانبهم ونصبت لهم الجسر فعبر خالد ومن معه ونزلوا بالبيعة بحيث أن الملكة تشرف عليهم وتنظر إليهم فرأت أقواما قد طلقوا الدنيا وطلبوا الآخرة وليس فيهم من ينهر ولا يسفه ولا يخالف أخاه قد اشتغلوا بالذكر وتوحشوا بالصبر فلما نظرت إلى حسن عبادتهم نزلت إليهم وأسلمت على أيديهم فقال خالد: تقبل الله منك ورضى عنك فالزمي قلعتك فلا سبيل لاحد عليك ونظر يوقنا اليها فقال: وددت لو كانت هذه أهلي فأنفذ خالد يشاورها فأجابت إلى ذلك وبعث خالد إلى عياض يشاوره فبعث إليه الجواب بأن زوجه ولا تترك من بلاد الحصن مكانا إلا وتنزل فيه.