للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل في محله، وعلى قدره الذي قدر أن يكون عليه فمنها الصغير، والكبير، والطويل، والقصير، والمنحني، والمستدير، والعريض، والمصمت، والمجوف، فهي مختلفة الأشكال والأحجام، وذلك حسب اختلاف المنافع المنوطة بها ثم شد تلك العظام وربط بعضها ببعض برباط قوي محكم بحيث لا يسقط عضو من آخر"١. {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} ٢. "ثم أن هذا الخلق الذي يبتدئ بخلق النطفة إلى أن يصير بشراً سوياً يتم في ظلمات ثلاث كما أشارت إليه السورة في قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} والمراد بالظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة"٣. ففي تلك الظلمات الثلاث يتم ذلك الخلق العجيب فعلى الإنسان أن يتصور نفسه وهو في تلك الظلمات الثلاث: لا عين تراه، ولا يد تلمسه، ولا حيلة له في التماس الغذاء.

قال ابن القيم: "فأعد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبرك بألطف تدبير، وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضرر فمن الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك كما يغذوا الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبناً ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، والتغلب على الغبراء هاج الطلق من أمك فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء"٤. فابن القيم رحمة الله عليه وضح لنا وجه الدلالة من التدرج في خلق الإنسان على أن هناك مدبراً حكيماً قادراً عليماً وراء هذا الكون وما فيه من المخلوقات دبره فأحسن تدبيره ـ فسبحانه ـ من إله حكيم أحكم خلقه وقدره تقديراً.

وبعض هذا العرض لمرحلة تكوين العباد في الأرحام تقول: إنا إذا اعتبرنا أن تلك المراحل إنما سيقت لتبين لنا كيف خلق الإنسان وكيف نما؟ وكيف تحول بحكم المراحل


١- مفتاح دار السعادة ١/١٨٧ ـ ١٨٩، وانظر "إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص٤٤ ـ ٤٥".
٢- سورة الإنسان آية: ٢٨.
٣- الجامع لأحكام القرآن ١٥/٢٣٦، تفسير ابن كثير ٦/٨٠.
٤- مفتاح دار السعادة ١/٢٥٥ ـ ٢٥٦.

<<  <   >  >>