قوله:(وقتاله كفر) إن قيل: هذا وإن تضمن الرد عَلى المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفِّرون بالمعاصي.
فالجواب: أن المبالغة في الرد عَلى المبتدع اقتضت ذَلكَ، ولا متمسك للخوارج فيه؛ لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كَانَ القتال أشد من السباب؛ لأنه مفضٍ إلَى إزهاق الروح عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر.
ولَم يُرِدْ حقيقة الكفر الَّتِي هِيَ الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدًا عَلى ما تقرر من القواعد أن مثل ذَلِكَ لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: ٤٨، ١١٦]. وقد أشرنا إلَى ذلِكَ في باب المعاصي من أمر الجاهلية، أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر.
وقيل: المراد الكفر اللغوي: وهو التغطية؛ لأن حق المسلم عَلى المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كَانَ كأنه غطى عَلى هذا الحق، والأولان أليق بمراد المصنف، وأولى بالمقصود من التحذير من فعل ذلِكَ والزجر عنه بخلاف الثالث.
وقيل: أراد بقوله: "كفر" أي: قد يؤول هذا [٩٢ / ب] الفعل بشؤمه إلَى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله عَلى المُسْتَحِلّ لذلك؛ لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كَانَ مرادًا لَم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مُسْتَحِلّ لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا، ثم ذَلِكَ كله مَحمول عَلى من فعله بغير تأويل، وقد بوب المصنف عليه في كتاب المحاربين كما سيأتي إن شاء الله تعالَى.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رَوَاهُ مُسْلِم:"لعن المؤمن كقتله"(١). فلا يخالف هذا هذا الحديث؛ لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الَّذي اشتركا فيه بلوغ الغاية بالتأثير، هذا في العِرْض وهذا في النفس، والله أعلم.
(١) "صحيح مُسْلِم" (كتاب الإيمان، باب: غلظ تَحريم قتل الإنسان نفسه. . . .) برقم (١١٠).