للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن القيم - رحمه الله -: «وتَأَمَّل حِكْمة القرآن الكريم كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السميع العليم في الأعراف والسجدة (فُصِّلَت): {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)} (الأعراف)، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)} (فصلت)، وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يُؤنَسُون ويُرون بالأبصار بلفظ: {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} في سورة حم المؤمن، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)} (غافر)؛ لأن أفعال هؤلاء أفعال مُعَايَنة تُرى بالبصر، وأما نزغ الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم؛ فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها، وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يُرى بالبصر ويُدرك بالرؤية والله أعلم» (١).

وقال - رحمه الله -: «وتأمل سِرّ القرآن الكريم كيف أَكَّد الوصف بالسميع العليم بذِكْر صيغة {هُوَ} الدال على تأكيد النِّسْبة واختصاصها، وعَرَّف الوصف بالألف واللام في سورة {حم} (فصلت)؛ لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه؛ فإن الأمر بالاستعاذة في سورة {حم} وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مُقَابَلة إساءة المُسيء بالإحسان إليه، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون، ولا يُلَقَّاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى.

والشيطان لا يَدَع العبد يفعل هذا، بل يُرِيه أن هذا ذُل وعجز، ويُسَلِّط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له، فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وألا


(١) بدائع الفوائد (٢/ ٢٣٨ - ٢٣٩).

<<  <   >  >>