وهي -بعد هذا كله- معرض للإنسان، ترى فيه طباعه وأزياءه وخلائقه ولغاته، تسمع فيه أشتات الملاحظات وعجائب التعليقات، تمشي مع الناس فتجد فيهم من يسير على هدى فيرى كل شيء ويقف عليه، ويخرج وما فاته مشهد ولا ناله تعب، ومن يدع اللوحات الدالّة على الطرق والحرّاس المرشدين إلى المسالك ويسير على غير الطريق، فيدور دوران السّانية، فيُتعب نفسه ولا يبصر شيئاً ولا يخرج بفائدة، فكأنه الرجل الضالّ الذي يترك هَدْيَ الأنبياء وحكمة الحكماء، ويتبع عقله الأعوج وهواه، فلا يسعد في دنياه ولا يسلم في أخراه. وتمرّ على حرّاس الحيوانات فتجدهم قد فرقت بينهم الحظوظ إذ ساوت بينهم الوظيفة، فحارس القرد والفيل والدب الأسمر يلعب حيوانه فيقف عنده الناس وتُلقى إليه القروش، فيتسلى ويتغنّى (١)، وحارس الخنزير لا يلتفت إليه أحد.
* * *
زرت الحديقة، ومشيت مع الناس أنظر كما ينظرون إلى أنواع الحيوان، وأرى فيهم أمثالها ولكنها قد تلفَّفَت بالثياب! ففيهم أسد له بطشته وإن لم تكن له لبدته، وفيهم ثعلب له حيلته وإن لم تكن له فروته، ودب له غلظته، وحمار له غفلته،
(١) أي يستغني، ومنه «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن».