وطالت غيبة صْلَبي، فنسيته وطرحت همه عن عاتقي، وعدت أدور مع الحياة كما تدور السانية، مغمض العينين، أطوف في مَفْحَص قطاة، فلا غايةً أبلغ ولا راحةً أجد، أغدو إلى كدّ العقل وعذاب النّفْس وجفاف الريق وانقطاع النّفَس، وأروح وما بقي فيّ بقية لعمل ولا طاقة على كتابة، فألقي بنفسي على كرسي أو سرير أنتظر عذاب اليوم الجديد.
وإني لَغَادٍ إلى المدرسة ذات يوم، وإذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ وهو يسير بين تلك المواخير: تريانون وليدو ولوازيس، حائراً يتلفت. فقلت: لعله ضالٌّ أحب أن يستهديني، ووقفت له، فلما دنا وتبيّنته لم أملك من الفرح فمي، فصحت في السوق وسط الناس! وما لي لا أصيح وقد وجدت صلبي بعد طول الغياب؟ وحييته وحياني تحية ذاكر للصحبة حافظ للود، وطفق يحدثني حديثه.
قال: أتذكر يا شيخ ما ابتلاني به الله من أمر الحمام؟ لقد وقعت في داهية أدهى، ولقد والله كرهت الحضر وعفت المدن