مسكنه إلى الشمال حتى يظل بارداً لا تدخله الشمس، فيظنه موطنه، وموطنه هناك على حدود القطب الشمالي. ولكنهم لم يخدعوه؛ إنه ينظر فيرى قوماً لا يشبهون قومه، إذ لم تستعبدهم فئة قليلة منهم، ولم تظلمهم باسم العدل، ولم تخرسهم باسم حرية الكلام، ولم تملك دونَهم كلَّ شيء وتستمتع بكل متعة بشريعة ماركس ودين ديموس (١).
يدور الأبيض النهارَ كله غضبانَ أَسِفاً لا يهدأ ولا يستريح فلا يصل إلى شيء، ويلعب الأسمر بكرة من الحديد ويراوغ الحارس ويُضحك النظّارة؛ كلاهما سجين، ولكن هذا ينسى سجنَه وذاك يذكره أبداً، كالناس: منهم من يذكر المصيبة ويُدنيها من خياله فيراها أبداً أمامه، ومنهم من يخادع نفسه في الحقائق فتصفو له الحياة.
والأبيض -على جمال شكله ونعومة جلده- ثقيل سمج، والأسمر -على قبحه- لطيف خفيف، لأن الجمال جمال الروح لا جمال الجسد، فرُبَّ حسناء تنبو عنها القلوب، وغير ذات حسن تهواها الأفئدة وتعلق بها العيون.
ووقفت على القردة، وهي تعيش العمرَ كله مجلسَ لهو ولعب، تقلد كما يقلد «قِرَدة» البشر، ولكنها تقلد فيما ينفعها وهؤلاء يقلدون فيما يؤذيهم! وعلى الببغاء وهي تردد ما يُقال بلا فهم، كهؤلاء الذين يعيدون علينا كل ما يقول الغربيون! وعلى الحيات وهنّ ناعمات الملمس ناقعات السم، كالصديق
(١) «ديموس» باليونانية الشعب، ومنه اشتُقَّ اسم الديمقراطية.