للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ليخدعوا عن حقيقته الناس. وشربت بفيك من الينبوع، وشربوا بالكأس المذهَّبة الحواشي. والماء في كأس أبي نواس التي أقام في قرارتها كسرى (١) كالماء في الساقية، والشهوة التي رسالتك إليّ كالشهوة في غزل الشعراء وشعر الغزليين ولوحات المصورين وألحان المغنّين، ولكن الضمير هاهنا بارز ظاهر والضمير هنالك مستتر خفي، وشر الداء ما خفي واستتر!

إنه ما أشرف على مثل سنك أحدٌ إلا توقّد في نفسه شيء كان خامداً، فأحسّ حَرَّه في أعصابه، وتبدلت في عينه الدنيا غيرَ الدنيا والناسُ غيرَ الناس، فلم يعد يرى المرأة على حقيقتها إنساناً من لحم ودم، له ما للإنسان من المزايا وفيه ما فيه من العيوب، ولكنْ أملاً فيه تجتمع الآمال كلُّها وأمنيّة فيها تلتقي الأماني، ويُلبسها من خيال غريزته ثوباً يُخفي عيوبها ويستر نقائصها ويبرزها تمثالاً للخير المحض والجمال الكامل، ويعمل منها ما يعمل الوثني من الحجر: ينحته بيده صنماً ثم يعبده بطوعه رباً! إن الصنم للوثني رب من حجر، والمرأة للعاشق وثن من خيال!

كل هذا طبيعي (٢) معقول، ولكن الذي لا يكون أبداً طبيعياً


(١) يريد قول أبي نُوَاس:
تدورُ علينا الرّاحُ في عَسْجَدِيَّة ... حَبَتْها بألوان التّصاوير فارسُ
قَرَارَتُها كسرى وفي جنباتها ... مَهَاً تَدَّرِيها بالقِسِيّ الفوارِسُ
يصف كأساً ذهبيّة نُقشت في قعرها صورة كسرى وزُيِّنَت جوانبها بصور المَهَا والفوارس (مجاهد).
(٢) طبيعي هي الدائرة على أقلام البلغاء من القدم، والقياس طبعي.

<<  <   >  >>