وفُتح الباب، ودخلنا غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شبّاكَ ولا باب، ولا نافذةَ ولا كوّة ولا شقَّ لدخول الهواء. ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوِّت أصواتاً، بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزمّرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أم يخطب، أم هو مصروع معتوه يُخَلِّط، أم يتكلم بلسان أهل مالطة ... ؟ فلم أهتدِ إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدّم من العلبة أحدُ موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية.
فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟ سبحان القادر على كل شيء!
وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنَّثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟
قالوا: هُسْ! هُسْ!
وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. قال: تفضل يا أستاذ، اقعد وتكلم.