للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنّ الحضارة التي يطمح إليها بنو الإنسان في عدالتها، ورأفتها، ومساواتها، وتكامل أبناء البشر فيها، وتعاضدهم لإنجاز مشروع الرقي فوق كوكبنا الصغير في شتى المرافق الإنسانية: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرياضية، الإقليمية منها والقطرية والدولية، الآسيوية والإفريقية والغربية، الروحية والمادية، إنما تتجسد وتختزل في مدرسة الحج الكبرى التي تستقدم مندوبين عن كل فعاليّات البشر لتصهر منهم خلقاً آخر يعرف قدر نسبته إلى الإنسانية الأم، في الوقت الذي لا يجهل فيه قدر انتسابه إلى بني جنسه، وقومه، ومهنته، فهما دائرتان لا تطغى إحداهما على أُخرى، كل ذلك برعاية الإسلام الذي هو أرقى دائرة تحيط بكل الدوائر المذكورة، ترعاها، وتنسق فيما بينها، وعلى الخصوص في فريضة الحج التي تنبض بالدروس العملية لسموّ بني البشر (١).

فالذي يقصد مكة المكرمة لا بد وأن تحيا في قلبه وفكره وممارساته اليومية المعاني الحضارية التي لا يعمى عنها إلَّا من فقد نور البصيرة، وغرق في أوحال الجهل، لذلك لم يفرض الباري - عز وجل - الحج إلى المسجد الحرام إلا مرة واحدة في العمر إلا إن اضطر الإنسان لقضاء فائتٍ أو أداء نذرٍ فرضه على نفسه بنفسه؛ لأن الرحلة العظيمة في وسائلها وغاياتها تحتاج من المسلم استعداداً تثقيفياً بالمبادئ الحضارية التي ينسجها الإسلام من مقدّمات وموضوعات هذه الرحلة الجهادية، التي هي تكليف شاق بالجهد والمال للارتحال من مواطن الحل إلى أرض الحرم، ومن عموم الأرض إلى خصوصها، ومن مستوى محدد في


(١) البعد الحضاري لفريضة الحج «الركن الخامس» للمؤلف، ومن ثَمّ تعرضت للعقبة الكؤود التي تعيق بروز ما دعا إليه الإسلام من مقاصد حضارية.

<<  <   >  >>