للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

* وبعد ذلك مضت حليمة «١» به إلى بلادها عند سعد بن بكر، فأتاه الملكان هناك وشقّا صدره الشريف وأخرجا قلبه فغسلاه بماء الثلج في طست من ذهب، وملاه حكمة وإيمانا، واستخرجا حظ الشيطان منه (وهى مضغة سوداء) وفي رواية علقة، فلما علمت حليمة بذلك رجعت به إلى مكة لأهله بعد أن أقام نحو أربعة أعوام، فردّته إلى أمه. وشقّ صدره الشريف أيضا وهو ابن عشر سنين، ثم عند مبعثه، ثم عند الإسراء، والشق الأوّل الذى عند حليمة كان في السنة الثالثة من مولده صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: كان في الرابعة. ولكلّ من الثلاث حكمة، فالأولى التى كانت في زمن الطفولية؛ لتطهيره عن حالات الصبا حتّى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ عليه السلام على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. والتى عند المبعث زيادة في الكرامة؛ ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى في أكمل الأحوال من التطهير. والتى عند إرادة العروج إلى السماء؛ ليتأهب للمناجاة. وسكت عن حكمة شق صدره وهو ابن عشر سنين، فيحتمل أن يقال: لمّا كان العشر قريبا من سن التكليف شق صدره عليه السلام وقدس حتّى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، وقد نظم بعضهم المواطن التى شق صدره فيها صلّى الله عليه وسلّم، فقال:

أيا طالبا نظم الفرائد في عقد ... مواطن فيها شقّ صدر لذي رشد

لقد شقّ صدر للنبي محمد ... مرارا لتشريف، وذا غاية المجد

فأولي له التشريف فيها مؤثّل ... لتطهيره من مضغة في بني سعد

وثانية كانت له وهو يافع ... وثالثة للمبعث الطيب النّد

ورابعة عند العروج لرّبّه ... وذا باتفاق، فاستمع يا أخا الرشد

وخامسة فيها خلاف تركتها ... لفقدان تصحيح لما عند ذي النقد

والحكمة في غسله بماء الثلج والبرد هى مع ما فيهما من الصفاء وعدم التكدر


(١) وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يكرمها، فقد روى أبو داود، وأبو يعلى «أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان بالجعرانة يقسم لحما فأقبلت امرأة بدوية؛ فلما دنت من النبى صلّى الله عليه وسلّم بسط لها رداءه فجلست عليه، قال الطفيل راوى الحديث: فقلت: من هذه؟ قالوا: هذه أمه التى أرضعته» يعنى حليمة.