للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان صلّى الله عليه وسلّم يختلى في كل سنة شهرا عن* أهل بيته في غار حراء «١» بقرب مكة، فيتعبد فيه الليالى ذوات العدد، غريقا في بحار الأفكار ملازما للصمت اناء الليل وأطراف النهار، حتى أتاه الوحى على رأس الأربعين سنة في محل العبادة بالنبوة، فأوّل ما بديء به من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكانت تلك المنامات الصادقة مقدّمات للوحي، قيل مدتها ستة أشهر، ابتداؤها شهر ربيع الأوّل، ثم فجأه جبريل وهو بالغار المذكور فى شهر رمضان، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فغطّه «٢» حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ «٣» ، فقال: ما أنا بقاريء، فغطّه كذلك، ثم أعاد جبريل فقال له: اقرأ، وأعاد محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنا بقاريء، فقال له جبريل بعد المرة الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأها.

و «ما» فى قوله «ما أنا بقاريء» نافية في الكل، أو الأولى للامتناع، والثانية للإخبار بالنفى المحض، والثالثة استفهامية، وكرر عليه الغطّ ليقبل بكلّيته ويتم توجهه لما سيلقى عليه. ولما عاد إلى خديجة وأخبرها الخبر «٤» قالت: «والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرّحم وتقرى الضيف وتحمل الكلّ وتعين على نوائب الدهر» ثم انطلقت به حتّى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل فأخبرته خبر ما رأي، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى أنزله الله على موسي، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ قال:


* فى الأصل «مع أهل بيته» وهو خطأ ظاهر.
(١) «حراء» المقيم فيه تجتمع له ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت. وقيل كانت قريش تفعله. وأوّل من فعل ذلك من قريش: عبد المطلب، وتبعه على ذلك من كان يتأله (أى يعبد الله تعالى) وكان صلّى الله عليه وسلّم يخلو بمكان جده. (العمدة) ج ٢٠ ص ٥.
(٢) غطه: أي عصره عصرا شديدا (المعجم الوسيط: ٦٨٠) .
(٣) وما الذى أراد بقوله «اقرأ» ؟ قلت: هو المكتوب الذى في النمط، (كذا في رواية ابن إسحاق) فلذلك قال: ما أنا بقاريء، يعنى أنا أمى لا أحسن قراءة الكتب انتهى. ما قاله العينى ج ٢٠ ص ٦ من العمدة طبع الحلبي.
(٤) وفي السيرة الحلبية ما نصه: « ... فما زلت واقفا، ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائى حتّى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكانى، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلى، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها، مضيفا إليها ... » إلخ.