للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبلغ فيها وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته فألقى عندها [تلك الغرانيق العلي، وإن شفاعتهن لترتجي] محاكيا نغمته إلى اخره، فقد ردّ بعضهم هذا كله وقال: إنه موضوع وضعه الزنادقة، ولا أصل له؛ لأن الشيطان لا يلقى على الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام شيئا؛ حيث هم معصومون. وحلّ هذه المسألة يفهم مما كتبه البيضاوى والشهاب الخفاجى والشيخ زاده في هذا المحل، يعنى قوله تعالى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ؛ فإنه يفهم من كلام البيضاوى أنه هيأ في نفسه ما يهواه أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أى في تشهّيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغانّ على قلبى فأستغفر الله سبعين مرة» «١» قال الشهاب: حديث صحيح، والغين قريب من الغيم لفظا، والمعنى أنه يعرض لقلبى أن يغشاه بعض أمور من أمور الدنيا والخواطر البشرية مما يلزم للتبليغ، لكنها لإشغالها عن ذكر الله يعدّها كذنوب، فيفزع إلى الاستغفار منها، و (سبعين) للتكثير لا للتخصيص.

(انتهى كلام الشهاب) .


- والذى يميل إليه القلب ويسكن من الفزع هو: أنّ أيّ نبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما يتمنى أن يؤمن قومه جميعا، فيلقى الشيطان في هذه الأمنية ويدعثر قوما من قومه، ويلقى في أدمغتهم وقلوبهم الخبال، ويشنون على النبى الحرب حتّى لا يؤمن قومه. ولو أن الشيطان تمكن من أن يلقى على لسان نبى من الأنبياء لضاعت رسالته من أولها إلى اخرها، ويكفى شاهدا ودليلا وضاحا قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ٤٢] . والأنبياء أخص الخاصة من عباد الله تعالى.
(١) أغان الغين السماء: ألبها. والحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائى وأحمد عن الأغرّ المزنى رضى الله عنه بلفظ: «إنه ليغان على قلبي، وإنى لأستغفر في اليوم مائة مرة» . ويروى أن الإمام أبا الحسن الشاذلى رضى الله عنه رأى حضرة النبى صلّى الله عليه وسلّم في المنام فسأله عن الحديث. فقال له: «غين أنوار لا غين أغيار يا مبارك» . وقال الإمام العينى رحمه الله: وإنما كان يستغفر هذا المقدار مع أنه معصوم ومغفور له لأن الاستغفار عبادة، أو هو تعليم لأمته، أو استغفار من ترك الأولى.. إلى أن قال: اشتغاله بالنظر فى مصالح الأمة ومحاربة الأعداء وتأليف المؤلفة قلوبهم ونحو ذلك شاغل عن عظيم مقامه، من حضوره مع الله عز وجل، وفراغه مما سواه، فيراه ذنبا بالنسبة إليه، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال، فهو نزول عن عالى درجته، فيستغفر لذلك. وقيل: كان دائما في الترقى في الأحوال، فإذا رأى ما قبلها دونه استغفر منه، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.