للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تقدم على العير حذرا حتّى ورد الماء، فلقى ذلك الرجل الذى على الماء، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما شيئا ففتته، فإذا فيه كسيرات النوي، فقال: «والله علائف يثرب» . فرجع إلى أصحابه سريعا فصرف وجه عيره عن الطريق، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتّى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى نفير قريش، وكان قد بلغه مجيئهم ليحرزوا العير، وكانوا حينئذ بالجحفة، [فقال أبو سفيان] «١» : «إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجّاها الله تعالى فارجعوا» ، فقال أبو جهل: «والله لا نرجع حتّى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان- أى تضرب بالدفوف- وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها» . وأراد بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: «لا تفارقنا هذه العصابة حتّى نرجع» ، ثم لم يزالوا سائرين حتّى نزلوا بالعدوة القصوي، قريبا من الماء، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعيدا من الماء بينه وبين الماء مسافة، فظميء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب «٢» غالبهم، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادى لينا كثير التراب، تدخل فيه الأقدام، فأمطرت السماء ببركة النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وتلبدت الأرض، وزال غبارها وشدتها، وشربوا وملأوا الأسقية، وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:

١١] ، وأصاب قريشا «٣» منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه ويصلوا إلى الماء، فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة للمشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس شديد، وبات النبى صلّى الله عليه وسلّم من بينهم يصلّى تحت شجرة، وقد حصل النعاس لهم، وهو دليل على الطمأنينة، فلما أن طلع الفجر نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الصلاة عباد الله» ، فجاء الناس من تحت الشجر والجحف، «٤»


(١) ليست في الأصل، وإنما وضعناها ليستقيم الكلام.
(٢) أجنب: أي صار جنبا بخروج المنى باحتلام أو غيره الموجب للغسل.
(٣) فى الأصل «قريش» على أنها فاعل، والصحيح «قريشا» لأنها مفعول.
(٤) قرون الفلاة ورؤسها.