للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولما خرج جعفر رضى الله عنه من الحبشة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث النجاشى أريحا ابنه في ستين رجلا من الحبشة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، والحكمة في ذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- لو أنهم جاؤا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووصلوا إليه، ربما كان الكفار والمنافقون يقولون: «إن محمدا ما به ملكة (أى قوة وسلطان) واشتد أزره بملك الحبشة وأصحابه» ، فأراد الله تعالى أن يظهر للناس كافة أن قوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبله عز وجل، لئلا يشك في ذلك أحد أن قوته من ملك أو سلطان أو وزراء أو أعوان كما هو مصرّح به في بعض الكتب المعتبرة. ووافى جعفر وأولاده الثلاثة عبد الله، ومحمد، وعون، ومن دخل في الإسلام هناك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خيبر، فى سفينتين، وفيهم سبعون رجلا من الحبشة، عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمان من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة يس إلى اخرها، فبكوا حين سمعوا القران، وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [المائدة: ٨٢] ، يعنى وفد النجاشى الذين قدموا مع جعفر ابن أبى طالب، وكانوا من أهل الصوامع، وأما قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «١» الاية.

قال ابن عباس رضى الله عنهما (فى رواية عطاء) : يريد النجاشى وأصحابه، قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص [سورة مريم] ما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر من القراءة. كذا في تفسير البغوى رحمه الله تعالى.

ولما أقبل عليه صلّى الله عليه وسلّم جعفر رضى الله عنه، قام صلّى الله عليه وسلّم إلى جعفر وقبّله بين عينيه، وقال: ما أدرى بأيهما أسرّ بقدم جعفر أم بفتح خيبر؟.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما لما قدم جعفر رضى الله عنه من أرض الحبشة، اعتنقه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وقبّله بين عينيه. وجعل ذلك أصلا لاستحباب المعانقة، وقال بعضهم إنها مكروهة، وحديث جعفر يحتمل أن يكون قبل النهى عنها، ولم يجب بذلك الإمام مالك رضى الله عنه؛ فإنه لما قدم سفيان بن عيينة رضى الله


(١) سورة المائدة: ٨٢.