للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويقال إنها خاطبته بقولها:

خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين

ولن في الكلام لجمع الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين

وكان صلّى الله عليه وسلّم يولّى من الناس خيارهم، والذى يليه منهم خيارهم، وكان أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، وما انتهر خادما ولا قال له في شيء صنعه لم صنعته؟ ولا في شيء تركه لم تركته؟ بل يقول «لو قدّر يكون» ، ولا ضرب بيده أحدا إلا في الجهاد.

ولما قيل له ادع على الكفار، قال: «إنما بعثت رحمة، اللهمّ اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .

وكان عنده القريب والبعيد، والقوى والضعيف في الحق سواء، ويؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ولم يكن فحّاشا (من باب النسب «١» ) أى وليس بذى فحش أى لا يصدر عنه، وليس من باب المبالغة حتّى تكون منفية لإشعاره ببقاء أصل الفحش، وهو ظاهر البطلان، فهو من باب قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] أى بذى ظلم، لا أن كثرة الظلم هى المنفية وأصل الظلم موجود؛ إذ هو مستحيل عليه تعالى. ولا لعّانا، ولا بخيلا، ولا جبانا، ولا سخّابا في الأسواق (بالسين المهملة والخاء المعجمة وهو لغة ربيعة) والسخب هو: رفع الصوت، أى لا كثيره ولا قليله، والمراد نفيه مطلقا. والمعنى وصفه صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس عنده رغبة فى الدنيا وتحصيلها، بحيث يصرف زمانه في تحصيلها بالجدّ في ذلك والإكثار منه في الأسواق، فلا ينافى أنه عليه الصلاة والسلام تجر لخديجة رضى الله عنها «٢» فكيف يكون ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «اتّقوا الله وأجملوا في طلب الدنيا فإنّ كلّا ميسر لما خلق له «٣» » ولا يواجه أحدا بما يكره، يكرم أهل


(١) أى لا ينسب إلى الفحش، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يحب كل فاحش متفحش» .
(٢) هذا قبل (الرسالة) أما بعدها فمما أفاء الله عليه.
(٣) رواية ابن ماجه والطبراني والحاكم، والبيهقى ولفظها: «أجملوا في طلب الدنيا؛ فإن كلّا ميسر لما كتب له منها» . كذا في الفتح الكبير، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ ميسر لما خلق له» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.