للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

للرعى والإتجار، وشارك ووكّل وتوكّل، ووهب ووهب له، واستعار وضمن عن الله ضمانا خاصّا وعامّا، وشفع وشفع إليه، وسابق وصارع، وطلّق والي، وضاف وأضاف، وداوى وتداوى بمفرد ومركّب، ورقى واسترقي، وحذّر من التخمة وكثرة الأكل، وكان يصوم حتّى يقال لا يفطر، وعكسه، وأكثر صيامه فى شعبان، وكان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، فتقول له عائشة: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك؟! فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا! وكان أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبى على دينك» . وخرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، فكان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر، وربما شدّ علي بطنه حجرا من الجوع. وقد اتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فأبى أن يقبلها، واختار الآخرة عليها، وهذا على وجه الاختيار لا على وجه الاضطرار لأجل أن تتأسى به أمته، ومما يدل علي ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «عرض عليّ ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا ربّ أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ، قصد صلّى الله عليه وسلّم أن يكون مشغولا بالله في طوري الشدة والرخاء، والنعمة والبلاء.

قال بعضهم: وحكمة ربط الحجر أن يسكن بعض ألم الجوع؛ لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام قلّت الحرارة به، فإذا قلّ اشتغلت برطوبات الجسم وجواهره، فيحصل التألم حينئذ، ويزداد ما لم يضمّ إلى المعدة الأحشاء والجلد، فإنّ نارها حينئذ تخمد بعض الخمود، فيقلّ الألم، فيفيد إنّ شدّ الحجر على قدر ألم الجوع، فكلما زيد زيد. اهـ.

وقال بعضهم: عادة أصحاب الرياضة «١» ، وكذا العرب وأهل المدينة إذا اشتد جوعهم وخليت بطونهم أن يربط كل واحد منهم حجرا على بطنه؛ لئلا تنزل أمعاؤه، فيشقّ عليه التحرك، فإذا ربط حجرا على بطنه يشتد بطنه وظهره فتسهل عليه الحركة، فكان صلّى الله عليه وسلّم أكثرهم رياضة، وكأن الله تعالى خلق فيه برودة تسكن الجوع وحرارته.


(١) يقصد بأصحاب الرياضة: الذين يدربون أنفسهم على الخلوات والذكر.