- والنبوة لها إرهاصات تسبقها تؤكد صدقها، يدلل عليها الواقع، والحوادث التاريخية، وسير الأنبياء، باستقراء ذلك كله، واطراده فيما جاء التاريخ به من وقائع صحت نسبتها إلى أولئك الذين ادعوا صلتهم بالسماء، وارتباطهم بالوحي، وإن ذلك من إرهاصاتها التي رأى المشركون غيرها في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كالغمامة التي رأوها تظلله وخبر بحيرى الراهب (١) وغير ذلك، مما جعل يَقِر في وجدانهم مثل هذه الأمور الخارقة للعادة التي حدثت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتي ذكرنا أنها من عناية الله تعالى قبل البعثة بمن سيكون رسوله إلى العالمين.
ويمكن أن نصل بافتراضنا إلى أبعد من ذلك، وهو أن الشرح وَقِفَ علمه على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن هذا ثناء بينه سبحانه وبين عبده لم يطلع عليه أحد، ليكن ذلك، ولكن يأتي السؤال ألم يواجه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك الناس جميعًا مخبرًا بهذا الخبر في جملة ما أنبأهم به، وكان داخلاً هذا الشرح في جملة ما تحدى به البشر إلى يومنا، وإلى قيام الساعة؟ لم ينكر ذلك معاصروه، ولا قاموا في وجهه جاحدين له، معترضين عليه، بين مكذب راد عليه ومصفق مستهزئِ به، بل سلموا ذلك الأمر يوم كانوا كفرة محاربين، وآمنوا وازدادوا تسليمًا بعد ذلك.
لقد أطلت شيئًا ما في هذا الموضوع؛ للنظر الموضوعي المجرد لقضية النبوة، إذ كل
(١) اخرج الترمذى (١٢/ ٦٨)، والحاكم في المستدرك (١٠/ ٨)، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن أبى بكر بن أبى موسى عن أبيه قال «خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال له أشياخ من قريش ما علمك فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبى وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه».