وفي الآية بالتالي تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس وفي ذلك دعوة لإسلامهم، ولذا ختمت الآية بقوله تعالى:"الذين خسروا أنفسهم" من المشركين، ويصح أن تكون بدلاً من "الذين آتيناهم الكتاب" الخسران المبين بعدم إسلامهم، فكلاهما هالك برد الحق أو كتمه بعد شهادة الله، وشهادة الأحبار والعلماء من أهل الكتاب.
وإن من دواعي إسلامهم الأكيدة أنهم يعرفون هذا الكتاب، وأنه الحق من ربهم، ومن حقه وما تضمنه صدق رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدق ما جاء به حيث بشَّرت كتبهم به أيضًا وبصفاته وغير ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرفونه معرفة أبنائهم، معرفة التحقق والجزم، إذ لا يضل المرء عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه، وأنه هو ابنه المعروف (١)، وما ينكر ولده حينئذ إلا جحدًا وعنادًا وغيرهما، وهو في قرارة نفسه يعلم أنه ابنه بلا شك.
بهذا العرض الموجز للآيتين الكريمتين وهما قليل من كثير يتبين كيف وضح القرآن الكريم تمام التوضيح صورة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكتب السابقة وجلاها على أبهى سيرة وأحسنها ليقطع العذر وليقيم الحجة.
وكانت الآيتان الكريمتان مما توافق فيه قصة السيرة – قصة "بحيرى" الراهب - مع القرآن الكريم، فثبتت قرآنًا وسُنَّة.
ونلاحظ أن الرواية كانت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبلغ من العمر اثني عشر سنة، ولم يكن ثَمَّ نبوة ولا وحي ولا قرآن، فعندما يأتي القرآن بمثل ما أتى به ذلك القصص فلا شك أن ذلك القصص صحيح، وجاء القرآن الكريم ليؤكده ويثبت وقوعه.
(١) انظر لما سبق بتصرف كبير الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٣٩ - ٤٠/ ٢)، (١٧٠ - ١٧٢/ ٧).