الثاني: توضيح مشاركة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل مكة، وحضوره في قضاياها حضورًا بناء يؤكد إيجابيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التعامل مع من حوله من أهل مكة كافة، حتى وصل إلى هذه الدرجة العالية في فصله في قضاياهم، والتحمل معهم لما ينزل بهم وهي نقطة الانطلاق في الرد على "وات" ومن لف لفه من المستشرقين، من تعتيمهم على هذه الفترة من حياته الشريفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محتجين بما ورد في سورة الضحى، بطمس الواقع وليِّ الحقائق.
وبداية الحديث التي اخترناها في بناء الكعبة موغلة في القدم إلى إبراهيم - عليه السلام - لربط الوقائع واتصال الأحداث.
وهي كما ذكر أصحاب السير والمحدثون (١) أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - ببناء الكعبة، وعرض - عليه السلام - الأمر على ولده إسماعيل - عليه السلام - الذي نشأ في هذا الموضع حيث تركه رضيعًا مع أمه في هذا المكان حتى حفر لهم جبريل زمزم بعد أن كادوا يهلكون من العطش، وشب إسماعيل في جُرهم التي نزلت بجوارهم لما رأوا الماء وتزوج منهم، وكان إبراهيم - عليه السلام - يطالع تركته تلك بين الحين والآخر حتى أمره الله سبحانه في هذه المرة ببناء بيته، ورفع قواعده وعرفه مكان البيت كما قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}[الحج: ٢٦]، وساعده إسماعيل عليهما السلام في ذلك، وفي هذا يقول الله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة: ١٢٧]، وكان يبني ساقًا كل يوم، حتى إذا بلغ مكان الحجر، قال لابنه: ابغني حجرًا، فالتمس حجرًا حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال له ابنه: من أين لك هذا؟ قال جاء به من لم يتكل على بنائك، جاء
(١) البيهقي، "دلائل النبوة" (٥٥/ ٢)، والطبري في تفسيره (٦٩ - ٧١/ ٣)، والحاكم في المستدرك (٩/ ٢٧٣)، باب ذكر إبراهيم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه الأزرقي في تاريخ مكة (٢٤ - ٢٥/ ١).