إن لقب الأمين علامة على مشاركته، وعلامة كذلك على المدى الذي أوصلته إليه هذه الإسهامات والأخلاق فيها، وإلى أي علو وصل سموه الخُلُقي والسلوكي، قد يقال إن المسلمين في ترجمتهم له وكَتبِهم لسيرته هم من أطلقوه، والرد إن "وات" يعلم قبل غيره أن من أطلق هذا الوصف هم الكفرة المناوئون له.
وقد أشرنا إلى أن هذا الوصف إنما هو من تربية الله للمصطَفينَ من عباده، وإلا كيف ذكر عن الأنبياء السابقين، وأشار أهل الجاهلية إليه كما ذكره النابغة في شعره عن نوح - عليه السلام - والقرآن الكريم كتاب هداية عقيدة وشريعة ليس كل اعتنائه منصبًّا على ذكر تفاصيل حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحظة بلحظة لا يعقل هذا له وإنما يترجم بقدر العون على الدعوة بعد التصديق بالرسالة والإيمان بالوحي إذ هو الوسيلة لتلك الأهداف، ومن ثم يشير إلى رؤوس القضايا والملامح العامة والتي تدل على ما تحتها وما وراءها دلالة باهرة لتلك الوسيلة مع الإسهاب في الهدف والغاية.
ومن ذلك ما صادفه "وات" لا محالة في أول ما نزل من الوحي قوله تعالى للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: ٥] فهذا الثناء الجامع يدل على ما تحته من جزئيات الأخلاق كافة، فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما شرحنا في الفصل الأول حاز بهذه الآية جميع الأخلاق الفاضلة، وفي نفس الوقت حصل من كل خلق أعظمه وأعلاه، وهذا الخلق العظيم يضادّ تمامًا أن تكون هذه السنوات الطويلة مجهولة، والتي توازي أكثر من ربع عمره الشريف حتى آتاه الوحي بإرهاصاتها، ومشاركاته وإسهاماته دون أن يَرُدَّ هذا الثناء مشركو عصره، ومقاتلوه ومناوئوه، وأن يُظهروا كذبه بأدنى مخالفة، وأقل تكلفة من ثمن اللجوء لحربه والتنكيل والاستهزاء والإيذاء له ولأصحابه، إذ لو ثبت كَذِبُهُ حاشا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خلق واحد لقضي على الرسالة في مهدها، ولعيَّره المشركون بذلك ولصُدَّ كلُ الناس عن الإيمان بدعوته بإثبات