لمكارم الأخلاق وفضائلها، وبهذا يزداد وضوحاً معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤] فهو متمكن من الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية (١).
ويؤكد سيد قطب أن تلك الأخلاق مربوطة بالسماء وليس العرف أو المصلحة إذ ذاك في الأرض هو الذي يحددها أو ينشئها فيقول:"لقد لخص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسالته في هذا الهدف النبيل، وهو أنَّه بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومن ثمَّ كانت سيرته الشخصية مثالاً حيَّا، وصفحة نقية وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)} [القلم: ٤] " فيُمجِّد بهذا الثناء نبيه، كما يُمجِّد به العنصر الأخلاقي في منهجه، ويشد به الأرض إلى السماء، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يُحب ويَرضى من الخلق القويم.
هذا الاعتبار هو الاعتبار الفذّ في أخلاقية الإسلام، فهي لم تنبع من البيئة، ولا اعتبارات أرضية إطلاقًا ولا تستمد، ولا تعتمد على ما كان قائمًا من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات، إنما تُستمد من السماء، وتعتمد على السماء، تُستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض، وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى بجوار الله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)} [القمر: ٥٥].
وهذه الأخلاق ليست فضائل مفردة: صدق، وأمانة، وعدل ... إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشريعة التنظيمية، وتقوم عليه فكرة الحياة كلها
(١) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (١٥/ ٦٤٩)، أبا حيان "البحر المحيط" (١٠/ ٢٣٦)، الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (٢٩/ ٦٤).