صاروا لا يقتصرون على السيادة في المدينة، بل تحركوا لفرض سيطرتهم على ما حولها من القبائل، مؤثرين في علاقاتها ومصالحها.
لا شك أن هذه السرايا والبعوث قد نجحت في تحقيق أهدافها مما أربك قريشاً وحلفاءها بسبب ضرب نشاطهم التجارى في كل الاتجاهات، وحصل المسلمون على مورد للتموين والتسليح، ونجحت هذه السرايا في إنذار الأعداء بأن للمسلمين المقدرة على التصدى والردع، واكتسبت قوات المسلمين الخبرة في مجال التدريب العسكرى، والمناورة وجس نبض الأعداء ومعرفة بدروب الصحراء وأحوال الأعداء (١).
ونلاحظ على هذه السرايا والغزوات في تلك المرحلة أنها لم تكن ذات طابع دينى، يحمل الناس على أوامر الشرع، أو يدعوهم إلى الإسلام، نعم ولكن هذا هو الظاهر من عرض الأحداث، وإن كنا نسابق فنقول إن عدم العلم بالوقوع لا ينفى الوقوع، لأن الأصل في أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أنهم ما خالطوا أحداً حتى في أحلك أوقاتهم إلا كانت الدعوة إلى الإسلام هي أول ما يبادرون إليه قولاً سلوكاً، وكأن كتاب السيرة لعلمهم بهذا الحال وأنه ديدن المؤمنين وشغلهم الشاغل، ووظيفتهم التى شرفهم الله بها هي الدعوة إلى الإسلام فكأنه من تحصيل الحاصل أن يذكروا به في كل موطن.
ثم إن ما استغرقته من هذه الغزوات والسرايا من وقت إلى غزوة بدر الكبرى يعتبر قليلاً في جنب الوقت الباقى، فلاشك أن ذلك كان مصروفاً فيه إلى الدعوة من جملة أشغالهم ولاشك أن المدينة نفسها وما حولها قد أخذت الجزء الأكبر والاهتمام البالغ بالدعوة إلى الله تعالى، لتثبيت قاعدة انطلاق الإسلام على أقوى أساس وأمتنه، وإن مما يقوى هذه القاعدة أن تكون كل طرق المواجهة من حولها مستقرة وتحت السيطرة تحالفاً أو موادعة وتحييداً.
(١) انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (٣٢٧)، وكذا د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (٣٤٥ - ٣٤٦).