وهكذا رأينا كيف كانت القبلة تحمل هذه الدلالات التى جاء الإسلام ليؤسسها في الجماعة المسلمة من وقت مبكر تستطيع فيه حمل الراية والسير الحثيث لتحقيق تلك الأهداف مع التمايز بأنهم المسلمون، ولقد ساروا بذلك حتى إنه لا يمكن أن يقال عنهم في كل مجال يحمل الخير والحق والعدل والرحمة إلا إنهم المسلمون. إلى أن فقدوا موقعهم تحت الراية وانزحاوا يمنة ويسرة فحل بهم ما نعانيه اليوم.
نعود إلى هذا الجزء من السيرة النبوية في القرآن الكريم كما هو منهجنا، ونقتصر على ما يوضح الموضوع من كلام الله تعالى، ونبدأ بالآية الأولى وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)} [البقرة: ١٤٢].
وكان سياق هذه الآية الكريمة بحسب الواقع الظاهر متأخراً بعد تحويل القبلة، إذ ذلك القول من السفهاء إنما هو بعد أن يغير المسلمون قبلتهم فتشاع عنهم هذه المقالة السيئة والإشاعات المغرضة ونذكر حكمة ذلك بشرح الآية فيما يلى كما وضحه الفخر الرازى في «التفسير الكبير»، يقول ماحاصله إن قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فيه قولان:
الأول: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضى أيضاً، كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون على فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد فإذا ذكروه مرة أخرى صح أن يقال سيقول السفهاء.
الثاني: أن الله أخبر عنهم قبل أن يذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد:
أحدها: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أخبر عن شيء قبل وقوعه، كان هذا إخبارا بالغيب، فيكون معجزاً.