وأما التمثيل فبابٌ واسعٌ من البيان للعامة؛ لأنه أخصر من الدليل، والأذهانُ إلى إدراكه أسرع. قال صاحب الكشاف:"ولِضَرْبِ العَرَبِ الأمثالَ، واستحضار العلماء المُثُل والنظائر شأنٌ ليس بالخفيِّ في إبراز خَفِيَّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تُريك المُتَخَيَّلَ في صورة المُحَقَّق، والغائبَ كالشاهد، وفيها تبكيتٌ للخَصْم الألدِّ، وقمعٌ لسَوْرَةِ الجامح الأبيِّ، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣)} [العنكبوت] ".
والتمثيلُ يكون بذِكْر الأمثال، ويكون بالبناء على اعتقادٍ أو قصَّة، وقد خطب عبد الملك بن مروان بالمدينة خطبةً اقتصر فيها على ذِكْر المَثَل، روى شارح ديوان النابغة عن أبي عبيدة قال: لما حجَّ عبد الملك أوَّل حجَّة حجَّها في خلافته، قدم المدينة فخطب فقال:"يا أهلَ المدينة: والله لا تحبوننا، ولا نحبُّكم أبدًا وأنتم أصحاب عثمان، إذ نَفَيْتُمُونَا عن المدينة ونحن أصحابُكم يوم الحَرَّة، فإنما مَثَلُنَا ومَثَلكم كما قالوا: إنه كانت حيَّةٌ مُجَاورةٌ رجلاً فوَكَعَتْه فقتلَتْه، ثم إنها دعت أخاه إلى أن يصالحها على أن تَدِي له أخاه فعاهدها، ثم كانت تعطيه يومًا ولا تعطيه يومًا، فلما تنجَّزَ عامَّةَ دِيَتِه قالت له نفسه: لو قَتَلْتَها وقد أَخَذْتَ عامَّة الدِّيَة، فأخذ فَأْسًا فلمَّا خَرَجَت لتعطيه ضَرَبَها على رأسها فسَبَقَتْهُ يدُه فأخطأ مقاتِلَها، فنَدِم وقال لها: تعالي نتعاقد أن لا نغدر، فقالت: أبى الصُّلْحَ القَبْرُ الذي بين عينيك، والضَّرْبَةُ التي فوق رأسي، فلن تحبَّني أبدًا ما رأيتَ قبر أخيك، ولن أحبَّك ما كانت الضَّرْبَة برأسي".