والمحاورات العلمية المشتملة على اصطلاحاتٍ لا يَفهَمها غيرُ أهل ذلك العلم، وقد حصر الماورديُّ رحمه الله في كتاب (أدب الدين والدنيا) الأسبابَ المانعةَ من فهم الكلام لعلَّة فيه في ثلاثة، وهي: تقصير اللفظ على المعنى، وزيادة اللفظ على المعنى، والمواضعة: أي الاصطلاحات.
وأما اتصال جمل الكلام: فهو فُسْطَاط علم الإنشاء، وحَلْبَة استباق همم المُتَضَلِّعين فيه، وقد تتبَّعتُ كلام أئمة الفن فوجدتُ غايةَ ما تبلغ إليه الضوابطُ في اتِّصال جُمَل الكلام -على كثرة الأسماء والألقاب المتناثرة في كتب الأدب- أربعة أشياء:
تناسبُ بعض الجُمَل مع بعض، وعدمُ انفكاك بعضِها عن بعض، والانتقال من أسلوبٍ إلى أسلوب، وحُسْنُ الابتداء، والتخلُّص، والخِتَام:
فأما تناسب بعض الجمل مع بعض: وهو المعبَّر عنه بـ (الفَصْل والوَصْل) فموضع القول فيه في علم البلاغة.
وأما ارتباط الجُمَل وعدمُ انفكاك بعضِها عن بعض: فهو أن تتصل الجُمَل، ولا يَفْصِلَ بينها إلا بشيءٍ مناسِبٍ لها، ويَعرِفُ كيف يكون الرُّجوع عما فُصِلَتْ به إلى ما فُصِلَتْ عنه؛ إذ المتكلِّم في المقامات الخَطَابية لا يَقتصِر على ما تَكلَّم لأجله، وإلا لجاء الكلامُ قصيرًا، وما طالت الخطبُ والقصائدُ، وصار الكلامُ كلُّه أمرًا أو نهيًا أو خَبَرًا، فلذلك احتِيج إلى تقديم المقدِّمات، وذِكْر العِلَل والغايات، والاستشهاد بالمناسبات، واستطراد النَّظَائر والأمثال، فقديمًا ما صُدِّر المديحُ بالنَّسِيب، والخُطْبة بالثَّنَاء والاعتبار، فإذا عَلِم المتكلِّم أين يضعُ أجزاء الكلام جاء كلامُه مرتبطًا، وإذا لم يُحْسِن ذلك اختلط عليه، وخَرَج