قد عَرَفْتَ من علم البلاغة أنَّ مقاماتِ الكلامِ متفاوتةٌ، وليس هذا جلَّ غَرَضِنا هنا، لأننا لا نحبُّ أن ننقُلَ عِلْمًا إلى آخَر، وإنما نبحث هنا عن مقامات الكلام التي لها مزيدُ اختصاص باختلاف أساليب الإنشاء، ومِلاكُ ذلك يرجع إلى نَبَاهَة المتكلِّم في ترتيب أداء المعنى بحسب حال المخاطَب وعلاقته بالواقع، فإنَّ مسألة ضروب التراكيب المذكورةِ في البلاغة لا يُنظَر فيها إلا إلى حال المخاطَب، كما أنَّ أحوالَ التقديم والتأخير، والحذف، والقصر، والإيجاز، يُنظَر فيها إلى حال المخاطَب مع علاقته بالخارج، ويشبه أن يكون حالُ المخاطَب وارتباطُه بالخارج مَرْجِعَ اختلافِ مقامات الكلام كلِّها، وذلك ينضبط فيما يظهر لنا في أربع جهات:
ترتيب المعاني المدلولة، وطرق الاحتجاج، وطرق الدلالة، وكيفية المعنى من جزالة أو رقة أو سهولة.
فأما ترتيبُ المدلولاتِ فالأصلُ فيه أن يكون على حسب حصولِها، وتفرُّع بعضِها عن بعض، فإن كان الكلامُ خبرًا فالنَّظَرُ إلى الحصول في الخارج، فيُحكَى على ترتيبه الطبيعي، نحو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)} [هود: ٧٧]. فإنَّ مدلولاتِ هذه الجُمَل تحصل في الخارج على نحو هذا الترتيب؛ إذ أول ما تحصل الإساءة في النفس، ثم فراغ الصبر، ثم