ومثل ذلك يقال في أساليب تنسيق الخطب على حسب الأغراض، فلكلِّ غَرَضٍ لهجةٌ ونَسَقٌ، فليست خطبةُ الجمعة كخطبةٍ في حفلةٍ سياسيةٍ أو أدبيةٍ، ولذلك يحسُن التأنُّق في بعضها والبَسَاطة في بعض، كما أنَّه يحسن الإرسال في بعضها ويحسن السجع في بعض. وقد تتبعت ما استطعت مواقع السجع في الخطب النبوية، وخطب فصحاء العرب في الجاهلية والإسلام، فرأيت مواقع السجع عندهم في حيث يُراد الحفظ للقول، كالوصايا والآداب والخطب الأدبية والعلمية، ويُرشِد إلى هذا ما روى الجاحظ عن عبد الصَّمد بن الفضل بن عيسى الرّقاشي أنه قيل له: لِمَ تؤثر السجع على المنثور؟ فقال:"لو كنتُ لا آمُلُ إلا إسماع الشَّاهد لَقَلَّ خلافي عليك، ولكني أريدُ الغائب والحاضر، والرَّاهن (الحال) والغَابِر (المستقبل)، فالحفظ إليه (أي السجع) أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحقُّ بالتَّقييد وبقلة التفلُّت". وعندي أنَّ هذا هو مراد الشيخ عبد القاهر بقوله في مقدمة كتابه (أسرار البلاغة) حيث قال: "إنَّ الخطب من شأنها أن تُعتمَد فيها الأوزانُ والأسجاعُ، فإنها تُروى وتُتَنَاقل تَنَاقُلَ الأشعار". وليس مراده أنَّ تناقل ذلك شأن الخطب كلِّها، لِمَا هو معلومٌ لا يفوتُه من أساليب خطب العرب وخطب الصَّدر الأول، ولذلك كان مقام السَّجع كل مقام يحضر للقول من قبل، فقد رأينا العَرَب لم تكن تحفل بالسجع إلا هنالك، كما في خطبة قُسِّ بن ساعدة التي خطبها في سوق عكاظ وهي مشهورة.
وكلُّ مقام يظهر فيه الارتجال لا يتأتَّى فيه السَّجع، فيحسُن حتى بالمولدين أن يتجنَّبوه هنالك، وإن كانوا لا يتكلمون إلا بِتَرَوٍّ سابقٍ، ولذلك لا تُعَدُّ خطبةَ منذر بن سعيد البلوطي التي ارتجلها في مجلس