والبلدان، فيكون على مِنْوَال كلِّ ذلك نسيجُ معاني الخطب، وتنسيق ألفاظها، وهو ما يُعبَّر عنه بـ (اختلاف المقامات وخطاب كلِّ قوم بما يفهمون). وقد تقدم الإلمام بذلك في قسم الإنشاء، وفي ذكر الانفعالات في هذا القسم الخطابي.
فإذا خطب الخطيب في العامَّة فعليه بِسَهْلِ المعاني؛ لأن تركيبَ المعنى ودِقَّتَه لا يَتَوَصَّل لفهمه الذِّهْنُ البسيط، وبالضَّرورة يستدعي ذلك سهولة دِلالة الألفاظ؛ إذ هي قوالبُ المعاني، مع انتخاب سَهْلِهَا ومُتَعَارَفِهَا بدون ابتذال -كما تقدم في الإنشاء-. وإذا خَطَب في الخاصَّة فليأت بالمعاني الرَّائقة، والحِكَم العالية، والألفاظ العَزِيزة المُعَبَّر عنها بـ (السَّهْل الممتنع)؛ لأنه إذا أتى بما دون ذلك لا يُثير انفعالهم، ولا يَرُوقُ كلامُه في أسماعهم فلا يحفلون به, ولقد سمعت خطيبًا يخطب يوم الجمعة بخطبة من الخطب العتيقة في الحَضِّ على شكر النِّعْمة، فكان مما قاله:"ومِن النِّعَم نعمةٌ خاصَّةٌ كالمال، وقد كاد أن لا يكونَ شُكْرُها إلا عندها لا بها". فانظر كيف خاطب العامة بلفظ معقَّدٍ لا يُسرِع الذهنُ المتوسِّط لاستخلاص معناه؛ إذ جَمَع بين سِتِّ أدوات في جملة واحدة، وهي: كاد، وإن، ولا، ويكون، وإلا، ولا، ثم جمع بين نَفْيٍ مستفاد من (لا) وإثباتين مستفادٌ أحدُهما من (كاد) والآخر من (إلا) متوجه جميعها إلى جِهَةٍ واحدة،