ولقد أجاد الحريريُّ ما شاء حين تخيَّل أبا زيدٍ خطيبًا إِثْرَ دفن الجَنازة في المقامة الحادية عشرة إذ قال:"فلما ألحدوا المَيْت، وفات قولُ لَيْت، أشرف شيخٌ مِن رِبَاوَهْ، مُتخَصِّرًا بِهِرَاوه، فقال: "لمثل هذا فليعمل العاملون، فادَّكِروا أيها الغافلون، وشَمِّروا أيُّها المقصِّرون، وأحسنوا أيُّها المتبصِّرون، ما لكم لا يحزنُكم دَفْنُ الأتراب، ولا يَهُولُكم هَيْلُ التُّراب .. إلخ".
فأنت تراه كيف جعَلَه مُستغنِيًا بذلك على مقدمة الخُطْبة.
ولَمَّا أَفْلَسَ الأُسَيفِع الجهني في زَمَن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - خَطَب عمرُ فقال: "أما بعد، فإنَّ الأُسَيْفِعَ أُسَيْفِعَ جُهَينة قد رضي لدينه وأمانته أن يقال: إنه سَبَقَ الحَاجَّ، ألا وإنه قد تَدَاينَ مُعْرِضًا فأصبح وقد رِينَ به، فمن كان له عليه شيءٌ فليأتنا غدًا نقسِم ماله بالمسجد، وإياكم والدَّينَ فإنَّ أولَه هَمٌّ وآخره حَرَبٌ". فتراه قد استغنى بالواقعة المُشَاهَدة عن تقديم المقدمة.
الرابع من أركان الخطبة: الغَرَضُ، وهو الذي من أجله انتصب الخطيبُ ليخطب، فَوِزَانُه وِزَان المطلوبِ في القياس المنطقي، ويعبر عنه بالنتيجة عند حصوله.
الخامس: البيان، أعني بيانَ الغرض وإيضاحَه، وذلك إما بالاستدلال، أو التمثيل، أو الاستطراد، أو الإشارة:
فالبيان بالاستدلال كثيرٌ بإقامة الدليل على صِحَّة الغَرَض والنِّضَال عنه.