اعلم أنه لا سبيلَ إلى الاستنتاج إلا الترتيبُ، ولا يحصُل ترتيبُ المعاني إلا بتقريرها في الذِّهْن ابتداءً، ثم رَعْيُ التَّنَاسبِ بينها بتفكيكِها وتقسيمِها والموازنةِ بينها.
والخطيبُ أحوجُ إلى هذا من الكاتب -كما يأتي في الخطابة- لأنه يقولُ ولا يكتبُ، فلا يُعِينُه إلا الاعتمادُ على الترتيبِ الطبيعيِّ للكلام، حتى يعتاد ذهنُه ذلك، ويصير له دُرْبَةً وسَجِيَّةً، كي لا يُرتَجَ عليه إن لم يقرِّر المعاني في ذهنِه، ولئلا يلعنَ بعضُ كلامِه بعضًا إن لم يرتِّبْهَا ويقسِّمْهَا، ويشهدُ لهذا ما نُقِلَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -: "كيف تقولُ الشِّعْرَ؟ فقال: أنظرُ ثم أقول".
وأما التناسب بين المعاني ففيه يَبْحَثُ بابُ (الفَصْل والوَصْل) من علم البلاغة، وكذلك (المطابقة) المبحوث عنها في البديع، و (المزاوجة) أيضًا.
وأما التفكيك والتقسيم فهما متشابهان، إلا أنَّ التفكيك عبارةٌ عن استقلال كلِّ معنى بنفسه، وعدمِ تراكم المعاني المسمَّى بـ (المعاظلة)، المعدود قديمًا من عيوب الكلام. وقد مدح عمرُ - رضي الله عنه - زهيرًا بأنه: